الحديث النبوي:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ” سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ بِعِبَادَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ (1)، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ “. متفق عليه واللفظ لمسلم.
نص نبوي عظيم، وحديث مهم جدًا يلقي الضوء على فئة معينة من العباد، يظلهم الله يوم القيامة يوم لا يكون هناك ظلًا إلا ظله سبحانه وتعالى، ويذكر لنا النبي ﷺ هذه الفئات التي نالت هذا الشرف العظيم..
بطاقة تعريفية | الصحابي
أبو هريرة رضي الله عنه الصحابي الجليل وصاحب رسول الله ﷺ، اسمه عبد الرحمن بن صخر الدوسي، أسلم في عام خيبر في السنة السابعة، وكنَّاه النبي ﷺ بـ أبي هريرة لأنه كان يحمل هرة في كُمّه، لزم النبي ﷺ فكان من أكثر رواة الحديث عنه، وكان من أهل الصُّفة الفقراء، توفى سنة سبعة وخمسين من الهجرة.
شرح حديث سبعة يظلهم الله في ظله
الإمام العادل
الإمام العادل في رعيته، القائم على شؤونهم، والحاكم فيهم بما أمره الله، لا يسرق ولا يظلم ولا يخون، يقوّم كل مائل، وينصف كل مظلوم، ويقوي كل ضعيف، ويغيث كل ملهوف، ويمد يد العون لكل محتاج، يتقي الله فيهم فيسمعهم وينظر في أمورهم، فهو راعٍ مسؤول عن رعيته، وكل صاحب ولاية تحقق فيه ذلك كان الأجدر بأن يكون من هؤلاء الذين يتنعّمون بهذا الفضل العظيم.
والحديث غير مقتصر على الإمام العادل فقط، بل معناه واسع فيندرج تحته القاضي والسلطان وكل من له ولاية على غيره من المسلمين.
ولعل السر في تقديم الحديث للإمام العادل على غيره من الفئات هو أن نفعه عام متعدٍ له ولغيره، فالإمام إن عدل بين رعيته عدلت حاشيته من نواب ووزراء، مما يعود بسواد الإصلاح على رعيته.
ولا شك أن من تمام العدل أن يعيِّن الإمام من يثق في قدراته من يقوم بعمله على أكمل وجه، وبذلك تُسدّ الثغور فلا ينال من الأمة ضعف.
شاب نشأ بعبادة الله
مرحلة الشباب أهم وأخطر مرحلة في الحياة، لأنها محفوفة بالشهوات، وبالتالي فإن الشاب أكثر عُرضة من غيره للوقوع في المعاصي، وعلى ذلك فإن الشاب الذي يتعلق قلبه بربه ويجاهد هواه ويخشى الله في كل أحواله ويحرس قلبه من الشهوات فإنه يدل على غلبة تقواه فيه وغلبتها على هواه، فيستحق أن ينال هذه المنزلة العظيمة، وأن يكون ممن يظله الله في ظله يوم تدنو الشمس من الرؤوس.
جاء لفظ “نشأ” في الحديث بمعنى تربى وكَبِر، والباء في “بعبادة الله” هي باء المصاحبة، أي أنه تربى مصاحبًا للعبادة ملازمًا لها منذ صغره، حتى أصبحت غريزة فيه يتأثر بانقطاعه عنها.
لا يستغنى الشاب المسلم عن مطالعة أسلافه من الصحابة إبان شبابهم كابن الزبير وابن عمر وأسامة، ليحذوا حذوهم ويسير على خطاهم، كما لا يفتر الآباء أيضًا عن تربية أبنائهم تربية سليمة، مستعينين على ذلك بحلقات القرآن والصحبة الصالحة وملازمة المساجد.
رجل قلبه معلق في المساجد
أي شديد الحب للمساجد، يتردد عليها بكثرة ويطول المكث فيها، فالمساجد التي تقام فيها الفروض الخمسة والتي هي صلة بين الرب وعبده إن لزمها الرجل دل ذلك على شدة حبه لهذه الصلة، فهو ينتظر صلاة تلو الأخرى كأن قلبه قنديل من قناديل المسجد.. كيف لا والمساجد هي بوصلة المسلمين، وميدان الذكر والعلم والعبادات، فيستحق المحب لها أن يُكرّم بأن يكون في ظل الله يوم القيامة.
والمحب للمساجد بعيد عن المعاصي قريبٌ من الله، فيعود ذلك عليه بصفاء قلبه وذهاب همّه وإكثار حسناته وتكفير سيئاته، فكأنه بذلك يتنعم في روضة من رياض الجنة، وليس المقصود المكوث في المسجد طوال الوقت، وإنما المقصود شدة التعلق والأنس والاطمئنان بها حال الوجود فيها والرجوع إليها حال الغياب عنها.
كما ننصحك أن تقرأ ملخص كتاب فاتتني الصلاة
رجلان تحابَّا في الله
رجلان تحابا في الله حب دائم نابع من القلب لا تشوبه شائبة، حب لله وليس من أجل غرض دنيوي كمال أو جاه أو قرابة، حب لا ينقطع حتى ولو افترقت الأجساد، حب صادق لا يقطعه إلا الموت.
من رحمة الله بعباده أنه عدَّ هذه الخصلة من ضمن السبعة، فهي من أيسر العبادات تحققًا، فالإنسان بطبيعته لا يستطيع العيش منفردًا، فهو يحتاج إلى أن يتعايش مع الناس وأن يتخذ حبيبًا له، وعلاقة المتحابين في الله فيها ترابط قوي وهي من أوثق العلاقات وأشدها صلة، لأن من أساس محبتهم أن يقوّم بعضهم بعضًا، فإن رأى أحدٌ من غيره خطأً أو تقصيرًا يأخذ بيده للحق، لأنه إذا أحبه في الله نصحه بما يقربه لله.
فذِكر الحديث لهذه الفئة المعينة دليل على عِظَم منزلة المتحابين في الله، والقرآن قد ألقى الضوء على هذا الجانب في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾.
رجل دَعَتْهُ امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله
أي أرادته امرأة وطلبته لفعل الفاحشة، وليست أي امرأة بل امرأة ذات منصب أي شرف ومال بالإضافة إلى الجمال، وخص الحديث هذان الأمران كونهما صفتان يرغب فيهما الكثير من الناس مع صعوبة وجودهما، ولا يعصم نفسه من الوقوع في هذه الكبيرة مع وجود هذه الدوافع وسُبل الإغواء إلا قلبٌ مُفعم بخشية الله.
قال القرطبي: “وقول المدعو في مثل هذا: إني أخاف الله، وامتناعه لذلك دليلٌ: على عظيم معرفته بالله تعالى، وشدّة خوفه من عقابه، ومتين تقواه، وحيائه من الله تعالى، وهذا هو المقام اليوسفي”.
إني أخاف الله: قد يُقصد بها القول باللسان زجرًا لها عما تطلبه، أو يكون التصديق بها بقلبه مع فعله بأن يمنع نفسه من أن يقترف ما يغضب ربه.
رجلٌ تصدق بصدقةٍ فأخفاها
دليل على المبالغة في إخفائها ليكون المتصدق أقرب للإخلاص وأبعد عن الرياء، وتنكير صدقة هنا يدل على العموم، فيدخل أي نوع من الصدقة قليله أو كثيره
والظاهر في الحديث أن الأفضل في الصدقة الإخفاء، وقيل الإعلان لما فيه من المصلحة أحيانًا، كحث الناس على الإنفاق، والاقتداء بالمتصدقين، والجهر بشعائر الإسلام كما هو الحال في بعض المشاريع الخيرية، وعللوا بأن الإخفاء أفضل لأنه أقرب للإخلاص، ولما فيه من مراعاة شعور الفقراء واحترامًا لهم خاصة المتعففين منهم، وإعلان الصدقة وإخفاؤها ليس له قواعد معينة بل يختلف باختلاف الأحوال.
رجل ذَكَرَ الله خاليًا ففاضت عيناه
دمعت عيناه على إثر ذكره لربه سواء بلسانه أو بقلبه، خاليًا ليكون أبعد عن لوث الرياء، وقد يكون ذلك نابعًا من محبة وشوق أو من خشية وخوف، وهكذا يتقلب العبد بين مقام الحب والخوف والرجاء بحسب ما يذكر ربه من أسماء وصفات.
وذكر الحديث لهذه الفئة إشارة إلى أهمية فضل البكاء خشيةً من الله أو شوقًا إلى لقائه، فهم فئة لا يلوث قلبهم رياء ولا التفات إلى المخلوقات، فاستحقوا أن يكونوا ممن يظلهم الله يوم القيامة.
هل الحديث خاص بالرجال دون النساء؟
من المعلوم أن الخطاب عامة يكون للرجال والنساء إلا ما ورد الدليل على تخصيصه، فهذا الحديث عام يشمل الرجال والنساء بلا شك، والنساء داخلون في الخصال الواردة لكن يُستثنى الإمام العادل لأن المرأة ليس لها ولاية عامة، إلا إذا كان المقصود العدل بين أولادها، وأيضا ملازمتها للمسجد لأن صلاتها في البيت أفضل، إلا إذا كان المقصود تعلق قلبها في الصلاة فتدخل ضمن الحديث، والله أعلم.
_________
(1) الصواب رواية [ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه ] كما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه.
وهذا يسمى في علم مصطلح الحديث بالمقلوب وهو وهم من الراوي.