عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: “يَخْرُجُ مِنْ ثَقِيفٍ كَذَّابٌ وَمُبِيرٌ”.
لولا الإيمان..
تتأرجح الفتن هنا وهناك، تتفتّت الأفئدة عند الشدائد، ولا يسع المرء إلا أن يحفظ قلبه، فعند البلاء تظهر معادن النفوس، فمن صبر فلح.. وإلا فليراجع إيمانه.
راوية حديث يخرج من ثقيف كذاب ومبير
أسماء بنت أبي بكر، صحابية جليلة، ومن الشخصيات البارزة في تاريخ الإسلام، وُلدت قبل الهجرة بـ 27 عامًا، بنت أبي بكر الصديق صديق النبي ﷺ، وأخت أم المؤمنين عائشة -وكانت أسماء أكبر منها بعشر سنوات- وزوج الزبير بن العوام حواري رسول الله ﷺ وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأبناؤها عبد الله وعُروة، كنيتها أم عبد الله، ولُقبت بذات النطاقين، أسلمت قديمًا بمكة، وشهدت معركة اليرموك مع زوجها وابنها، توفيت في مكة عام 73 من الهجرة بعد مقتل ابنها عبد الله بن الزبير بعدة ليال، وقد بلغت من العمر مائة عام ولم يسقط لها سنّ ولم يذهب من عقلها شيء، وهي آخر من مات من المهاجرين والمهاجرات.
استفد أيضا من حديث لا تكرهوا البنات
مثل المؤمنين في تَوَادِّهِمْ وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه
معنى حديث يخرج من ثقيف كذاب ومبير
عصفت الفتن بالمسلمين واشتدت خاصةً بعد عصر الخلفاء الراشدين، ومن تلك الفتن ما وقع لعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما.
بدأ الأمر عندما مات معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان دون أن يولِّي أحدًا على الناس، فمات وأصبح الناسُ لا خليفة لهم، ومن ثم بدأ الناس في مبايعة عبد الله بن الزبير بالخلافة وذلك في عام 64 هجرية، ومنهم أهل الحجاز والعراق واليمن وخراسان، وأدّى فريضة الحج مع الناس ثمانِ مرات، إلى أن تولى عبد الملك بن مروان حكم الشام فأرسل الحجاجَ بن يوسف الثقفي بجيش إلى عبد الله بن الزبير ليقاتله، إلى أن قتله عام 73 هجرية.
روى التابعي أبو نوفل بن أبي عقرب أنه شاهد عبد الله بن الزبير في مكان يدعى العقبة، والعقبة مكان مرتفع من الجبال، ويقصد بها العقبة الواقعة على طريق أهل المدينة حين ينزلون إلى مكة، فكان عبد الله بن الزبير مصلوبًا هناك بعد أن قتله الحجاج بن يوسف الثقفي، وظل الناس -من قريش وغيرها- لعدة أيام يمرّون على عبد الله وهو مصلوب، إلى أن مر عليه عبد الله بن عمر فوقف أمامه وقال: “السلام عليك أبا خُبيب” وكررها ثلاثًا، وخُبيب هي كنية عبد الله بن الزبير باسم ابنه الأكبر، ثم قال ابن عمر: “لقد كنتُ أنهاك عن هذا” وكررها ثلاثًا، وبدأ ابن عمر يتذكر نصيحته لعبد الله بترك الدخول في مواجهة مع بني أمية بسبب الخلافة، فقد كان ابن عمر ممن اعتزلوا الخوض في الفتن، وقد بايع عبد الملك بن مروان حينما استتب له الأمر واستقر، وبذلك فإن كلًّا من عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر في محل اجتهاد.
ثم أردف ابن عمر يذكر مناقب ابن الزبير قائلًا: “أما والله إن كنت يا ابن الزبير ما علِمتُك إلا صوّامًا، قوّامًا، وَصولًا” -أي كثير صلة الرحم- ثم غادر ابن عمر المكان، وبلغ الحجاج ما فعله ابن عمر عند ابن الزبير، فخاف أن يتأثر الناس بكلامه ويغضبوا لابن الزبير، فأمر بإنزاله من المكان المصلوب فيه ودفنه، ثم أرسل الحجاج في طلب أسماء بنت أبي بكر فأبت أن تأتي، فطلب منها مرة أخرى بإرساله رسولًا ليحلف على لسانه قائلًا: “واللهِ لَتَأْتِيَنِّي أو لَأبعَثَنَّ إليكِ”، ولكن أبت وأقسمت ألا تأتيه، فذهب إليها الحجاج وقال: “كيف رأيتني؟” يقصد ما فعله بابنها عبد الله زعمًا منه أنه فاسد، فقالت أسماء: “رَأيتُكَ أفسدْتَ عليه دُنياه، وأفْسَدَ عليك آخِرتَكَ”، وكان قد بلغ أسماء أن الحجاج كان ينادي عبد الله “يا ابن ذات النطاقين” تحقيرًا له وتلميحًا لها بإهانتها بالخدمة، فردّت عليه وأخبرته بأنها بالفعل صاحبة هذا اللقب العظيم وبيّنت له سببه، وأن هذا فيه تشريفٌ لها لأنها حملت طعام النبي ﷺ في نطاقها، وليس فيه منقصة ولا إهانة كما يزعم.
يخرج من ثقيف كذاب ومبير معنى مبير
ثم أخبرت أسماء الحجاجَ بأن النبي ﷺ أخبر أن الله سيُظهِر من ثقيف رجلًا كذابًا -لأنه يدّعي النبوة- ومبيرًا -لأنه يسفك دماء الناس ظلمًا- وقالت: “فأما الكذاب فرأيناه” -تقصد المختار الثقفي، فإنه ادّعى النبوة، واتّبعه الكثير من الناس حتى أهلكه الله- “وأما المبير فلا إخالُك” –أي: فلا أظن ذلك المبير إلا أنت- سكت الحجاج ولم يرد على كلامها وقام من عندها، وهكذا صدق قول أسماء عن الحجاج بأنه هو المبير الذي أخبر عنه النبي ﷺ، إذ أن الحجاج من ثقيف، وكان مشهورًا بسفكه للدماء.
اقرأ حديث: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته
نور من بين عائلة نورانية عبد الله بن الزبير
عبد الله بن الزبير، الزاهد العابد المجاهد، ولد في قباء بالمدينة النبوية في العام الأول للهجرة، وهو أول مولود للمهاجرين في المدينة، شهد معركة اليرموك صغيرًا، وفتح المغرب، وموقعة الجمل مع خالته عائشة أم المؤمنين، وكان من الأربعة الذين اختارهم عثمان بن عفان لجمع القرآن.
كان صوامًا قوامًا، وكان يلقب بحمامة المسجد من شدة تعلق قلبه بالمسجد، كان طارقًا لكل أبواب العبادة مجاهدًا فيها، حتى أنه جاء السيل بالبيت ذات مرة فطاف سباحة.
قُتل على يد الحجاج مصلوبًا عام 73 من الهجرة، وكان قد جاوز السبعين عامًا.
هكذا كان عبد الله.. سكن الإيمان قلبه، وسار على الشوك وحده، حتى وصل غايته، وأصبح يرى الجنة في كل شيء.
فلله دره من كانت لله غايته!
اطلع على فضل العالم على العابد
بصمة سوداء الحجاج بن يوسف الثقفي
لكل عصر طاغية، وطاغية هذا العصر الحجاج..
نشأ وكان ذو عقل راجح، حافظًا للقرآن، مُكثرًا لتلاوته، متجنبًا لمحارم الله، قال عنه بعض السلف: “كان الحجاج يقرأ القرآن كل ليلة”، وقال أبو عمرو بن العلاء: “ما رأيت أفصح منه ومن الحسن البصري، وكان الحسن أفصح منه”.
ومع ذلك، كان جبارًا خبيثًا حقودًا حسودًا، ولي على العراق، وعُرف في التاريخ بانتهاكه لحرمات الله وإسرافه في قتل الناس، وقد أحصى المؤرخون عدد الذين قتلهم الحجاج -دون من قتلهم في الحروب- فبلغوا مائة وعشرين ألف قتيل، ومن ضمن جبروته قتله للإمام التابعي الجليل سعيد بن جبير، وإذلاله لأهل الحرمين، وحصاره لعبد الله بن الزبير في الكعبة، وقيل هو من ضربها بالمنجنيق، وكان مفرطًا في الصلوات وظل يؤخرها عن وقتها إلى أن أهلكه الله في رمضان عام 95 هجرية، حتى سجد بعض الناس فرحًا بموته.
وقيل لم يَقتل بعد سعيد بن جبير أحدًا.
فوائد وفرائد من شرح حديث يخرج من ثقيف كذاب ومبير
من شرح الحديث نستخلص عدة نقاط منها:
- ذكر فضائل ومناقب عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما.
- مشروعية الثناء على الميت بصفاته الحميدة.
- على المؤمن أن يصدح بالحق دون أن يكترث للظالم، كما فعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
- بيان مساوئ الحجاج بقتله للصحابي والتابعين، وكيف أنه عاث فسادًا في الأرض.
- بيان قوة أسماء بنت أبي بكر وشجاعتها في قولها الحق، دون خوف من الحجاج.
- بيان معجزة من معجزاته ﷺ ودليل من دلائل النبوة، حيث أخبر بخروج رجلين من ثقيف، ووقع كما أخبر ﷺ.
كما يمكنك الاطلاع على رأي الإمام ابن باز رحمه الله في الحجاج: