عن شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: “سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ. قَالَ: وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجنة” رواه البخاري (6306)
هو نجوى الأبرار، وسلوى العُبّاد الأخيار، وهو منجا الفجار، وملاذ العُصاة الأشرار، هو ماحق الأوزار، ودافع النقم والأخطار، ومزيل الهموم والأكدار، به تُستدرّ السماء المدرار، وتُستجلب الأرزاق والأمطار، وبه تُنالُ الخيرات والبركات والجنات والأنهار، فيه خير الآخرة وخير هذه الدار. إنه الاستغفار، وما أدراك ما الاستغفار.
يحتاجه العاصي ليكفّر ذنبه، ولا يستغني عنه الطائع لربه، كيف والنبي صلى الله عليه وسلم وهو من هو عبادةً وتقوى وخشية كان يقول: “إنَّه لَيُغَانُ علَى قَلْبِي، وإنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ في اليَومِ مِائَةَ مَرَّةٍ”.
وهذا شأن العُبّاد؛ الاستغفار عن الغفلات وعن القصور الواقع في العبادات، فبعد الصلاة يستغفرون، وبعد الحج يستغفرون، (وبالأسحار هم يستغفرون).
وهو مع هذا قوّة في الأبدان، وبركة في الأرزاق، ونماء في الأموال، وكثرة في الأولاد ومصداق ذلك قول هود لقومه: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ﴾، وقول نوح لقومه: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (١٠) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (١٢)﴾.
شرح حديث سيد الاستغفار باختصار
وقد علّمنا نبيُّنا صِيَغًا للاستغفار، ولكن أعلاها مرتبة، وأوفاها معانيَ، وأقربها إجابةً هو سيّد الاستغفار.
وإنمّا سُمّي بسيّد الاستغفار لأحد احتمالين:
-إمّا لأن السيادة تتضمن معنى الأفضلية، فسيّد القوم أفضلهم، فكذلك سيّد الاستغفار هو أفضل الاستغفار، بمعنى أنّه الأكثر ثوابا، والأرجى قبولاً.
ووجه أفضليّته هو أنّه بدأ بالثناء على الله تعالى، والإقرار بربوبيته وألوهيته، وذكر الله بأكمل الأوصاف من الجلال والإكرام، ثمّ الإقرار بالعبودية والاعتراف بالذنب وإعلان الافتقار إلى الله والتضرع والاستكانة، في مقابلة النعم التي لا تُحصى، والتي تقتضي الشكر. ثم ختم بسؤال المغفرة.
-وإمّا لأن السيّد من النّاس هو الرئيس المقدّم الذي يرجع الناس إليه ويقصدونه في حاجاتهم، فكان هذا الدعاء سيّدا على غيره من أدعية الاستغفار لأنه جمع معاني التوبة كلها.
اطلع أيضا على: معنى مؤنسات الغاليات
واقرأ أيضا: حديث من لا يشكر الناس لا يشكر الله
ويمكن أن نقسمه إلى أربعة مضامين؛ الثناء، والافتقار، والاعتراف، والدعاء:
أولا: الثناء على الله
فمن آداب الدعاء، ومن أسباب إجابته أن يُقدّم بين يدي مسألته الثناء على الله عز وجل، فقد “سمعَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ رجلًا يَدعو في صلاتِهِ لم يُمجِّدِ اللَّهَ تعالى ولم يُصلِّ علَى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ عجِلَ هذا ثمَّ دعاهُ فقالَ لَهُ أو لغيرِهِ إذا صلَّى أحدُكُم فليَبدَأ بتَمجيدِ ربِّهِ جلَّ وعزَّ والثَّناءِ علَيهِ ثمَّ يصلِّي علَى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ثمَّ يَدعو بَعدُ بما شاءَ”.
فأوّل ما يبدأ به العبد في هذا الدعاء أن ينادي ربّه فيقول: “اللهم“، وهذه صيغة نداء كقولك: “يا الله”، لكن حُذف منها حرف النداء، وعُوّضت بالميم في آخرها. واستعمل النداء ليشعر العبد بقربه من الله تعالى، ومراقبة الله تعالى له وسماعه صوته ورؤيته لحاله.
فإذا نادى ربه يقول: “أنت ربّي” أعترف بربوبيتك على جميع مخلوقاتك، وبربوبيّتك الخاصّة عليّ، وحدك لا شريك لك، وأنفيها عن سواك، والحصر استفيد من تعريف الطرفين.
والربّ هو السيّد المولى المُطاع، الحكَم العدل، الآمر الناهي، مقدر الأقدار، ومشرع الشرائع، الخالق البارئ المصوّر، الرزاق الوهاب، الملك، المحيي المميت، الضارّ النافع، المعطي المانع، غافر الذنب، وقابل التوب، المدبّر للكون والمسيّر له بعلمه وقدرته وحكمته. فإذا قلتَ: “ربّي” فأنت تُقرّ أنه لا خير تجلبه ولا شرّ تدفعه، ولا رزق لك ولا قدرة لك، ولا حول لك ولا قوّة لك إلا بالله العليّ العظيم.
وإذا أقررت بربوبية الله تعالى فإنه يلزمك الإقرار بألوهيته، وإخلاص العبادة له سبحانه، فتقول: “لا إله إلا أنت“، أي لا معبود بحق سواك، فالإله هو المألوه أي المعبود؛ وذلك أنه لا يستحق العبادة إلا من له الربوبية الخالصة، وليس ذلك إلا لله تعالى.
ثم يذكر الله تعالى بأخص صفة من صفات الربوبية، وهي الخلق، فيقول: “خلقتني“، وإنّما خصّ الخلق بالذكر دون سواه من معاني الربوبية لأنه لا يمكن أن ينازع اللهَ فيه أحدٌ من المدّعين، فالله متفرد بالخلق وحده لا شريك له.
وخلق الإنسان آية من آيات الله الباهرة، الدّالة على عظمته سبحانه وقدرته، فكلّ مفصل وكل عضو وكل جزء من الإنسان يشهد بعظمة خالقه سبحانه، فتبارك الله أحسن الخالقين.
والمعنى الثاني الذي لأجله خُصّ الخلق بالذكر أنّه يستلزم باقي معاني الربوبية، وهي متضمنة فيه، فالله لا يخلق الناس عبثا ولا يتركهم سُدى، بل الذي خلق سبحانه هو الذي يهدي ويرزق ويشفي ويغفر ويحيي ويميت ويجازي، ولهذا عرّف موسى ربّه بهذا فقال لفرعون: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾، أي هدى كلّ مخلوق للسعي في مصالحه ودفع المضار عنه، حتى الحيوان البهيم. وبهذا حاجّ إبراهيم قومَه، فقال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}، فعرّف ربّ العالمين أوّلًا بصفة الخلق، ثم ذكر لوازمها، وهي الهداية للمصالح الدينية والدنيوية. وختم بالمغفرة، التي هي من مقتضيات ربوبيته على الإنسان، ومن لوازم خلقه.
وذلك أن الله تعالى خلق الإنسان خطّاءً غير معصوم، يُحبّ عباده التوابين المستغفرين، والله يحبّ أن يغفر لهم، فآثار ربوبيته سبحانه بالعفو والمغفرة تظهر مع ابن آدم الخطّاء، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ،لوْلَمْتُذْنِبُوالَذَهَبَاللَّهُبِكُمْ، وَ لَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ، فَيَغْفِرُ لهمْ”.
فهل يستوي الربّ الذي يخلق، ويُرجى منه كشف الكروب ومغفرة الذنوب، مع أرباب مزعومة لا تخلق ولا تنفع من يعبدها لا في دنيا ولا آخرة.
فكان قوله: “خلقتني” مناسبا لقوله: “اللهم أنت ربي”، ومقدّمة لسؤال المغفرة بعده.
ثانيا: الافتقار
ومن الأحوال التي تكون أرجى لإجابة الدعاء حالة افتقار العبد لله، وإعلانه الحاجة لمولاه، وتبرّأ من حوله وقوّته، والتصريح بشدة فاقته ومسكنته، والتضرّع والشكوى لربه، وإظهار عجزه وضعفه، وعلى ذلك كان دعاء الأنبياء والصالحين، فتأمّل دعاء موسى عليه السلام إذ قال: (رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير)، واسمع تضرع زكريا عليه السلام: ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (٣) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا﴾، وأيوب الصابر عليه السلام: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾. واستمع ابتهال نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو يقول فيما رواه أهل السير:” اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلةَ حيلتي وهواني على الناسِ يا أرحم الرحمين إلى من تكلني إلى عدوٍّ يتَجهَّمُني أو إلى قريبٍ ملكتَه أمري، إن لم تكن ساخطًا عليَّ فلا أبالي غيرَ أن عافيتَك أوسعُ لي، أعوذُ بنورِ وجهِك الكريمِ الذي أضاءت له السماواتُ والأرضُ وأشرقت له الظلماتُ وصَلَحَ عليه أمرُ الدنيا والآخرةِ، أن تُحِلَّ عليَّ غضبَك أو تُنزِلَ عليَّ سخطَك ولك العُتْبى حتى ترضى ولا حولَ ولا قوةَ إلا بك”.
وأعظم منازل الافتقار إلى الله، أن تُعلن العبودية له سبحانه، فتقول: “وَأَنَا عَبْدُكَ”، أي أعلن عبوديتي لك ربّي، بطاعتك والتذلل لك وطلب مرضاتك وامتثال أوامرك واجتناب نواهيك، وهذه عبودية الاختيار، وهي أسمى مرتبة يصل إليها البشر.
وما من مخلوق خلقه الله تعالى إلا وهو عبد لله تعالى، إما عبودية قهر وإجبار، وإما عبودية انقياد واختيار، فمن اختار أن يكون عبدا لله تعالى بامتثال أمره واجتناب نهيه فقد دخل في عبودية الاختيار، التي هي أسمى مراتب البشر. فإن أبى الإنسان قبولَ عبودية الاختيار، فإنه لا يخرج أبدا عن عبودية القهر والجبروت والملك، كما قال تعالى (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا)، أي ذليلا خاضعا.
وكلما تذلّل العبد لمولاه، وأذعن لما أمره أو نهاه، واستسلم لشرعه وحكمه، زاده الله قربا منه، ولا تسأل عن سعادة وطيب عيش من قربه مولاه منه، وأدناه من مقامه، وشرّفه بوسام العبودية، وبادله المحبة والولاء. قال ابن تيمية: “من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية”.
ومما زادني شرفاً وتيهاً *** وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي *** وأن صيّرتَ أحمدَ لي نبيا
فالعبودية هي أعلى درجات المحبة، مع أكمل درجات الافتقار إلى الله والحاجة إليه، والذل والمسكنة والانكسار له سبحانه، فخليق بمن بلغ هذه المرتبة أن ينال مغفرة الحليم الغفار.
وقوله: “وأنا عبدك” معطوف على قوله: “اللهم أنت ربّي”، فكأنّه قال: “اللهم أنت ربي وأنا عبدك”، وما ورد بينهما من قوله: “لا إله إلا أنت خلقتني” هو بيان للوازم الربوبية.
ومما يؤكد أن قوله: “اللهم أنت ربي وأنا عبدك” هي من أبلغ الثناء على الله، أنّها العبارة التي قالها ذلك الرجل الذي ضاعت منه راحلته في الصحراء، وعليها طعامه وشرابه، فلما يئس من طلبها إذ هي أمامه، فلمّا أبلغ الثناء على الله بإيجادها قال هذه العبارة، غير أنه أخطأ من شدة الفرح، فقال: “اللهم أنت عبدي وأنا ربك”.
* ثم تجدد البيعة لله تعالى، فتقول: “وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ“، وهي تحتمل معانٍ:
-المعنى الأول: أن العهد والوعد هو من الإنسان لربه، أن يؤمن به ويخلص الطاعة له، وهذا العهد والوعد أوّل ما يكون بالنطق بالشهادتين، فمن أسلم فقد عاهد الله على لزوم الإيمان به، والثبات على طاعته، وأن لا يزيغ عن هذا أبدًا.
-المعنى الثاني: أن العهد والوعد هو من الله للإنسان، وهو ما عهِد الله لعباده أن يؤمنوا به ويطيعوا أمره، كقول الله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾، والوعد هو ما وعد الله به من أطاعه وآمن به أن يُدخله جنته، ويُثيبه ويأجره على حُسن صنيعه. فيكون معنى هذا الدعاء أنا مقيم وباقٍ على عهدِك إليّ ورجاء وعدك لي.
-المعنى الثالث:أن العهد هو الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم في عالم الذرّ، لما أخرجهم من صُلب آدم عليه السلام جميعا، وأشهدهم على أنفسهم: (ألست بربكم قالوا بلى شهدنا). والمقصود بالوعد هو ما بشّر به النبي صلى الله عليه وسلم الناس أنّ من مات على ذلك العهد، لا يُشرك بالله شيئا أن يُدخله الجنة.
وهذه المعاني متكاملة، تتلخّص في تذكّر الدافع والمقصد، فالذي يدفعك للاستقامة هو العهد السابق، والذي يثبّتك عليه هو رجاء الوعد الآتي.
فإذا قُلت هذا الدعاء فقد جددت العهد الذي بينك وبين الله، فتُذكّر نفسك أوّلًا بهذا العهد كل صباح ومساء لتثبت عليه، وتستقيم عليه، وتتذكر الدافع إلى العمل. ثم أنت ثانيًا تُعلن لربك بقاءك على العهد، لم تتنكّب الصراط، ولم تُولِّ الأدبار، ومهما صدر منك من تقصير وتفريط فليس نكوصا منك، ولا نقضًا للعهد، بل أنت وفيّ، كما وصف الله أهل الجنة، أنهم ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾، أما أهل النار فقال عنهم: ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾.
كما أنّ في هذا الدعاء التذكير بالهدف المقصود، والغاية المنشودة، وهو طلب ما عند الله، واليقين في موعود الله، فلا تلتفت عنه يمينا ولا شمالا:
-فلا تغرّك الدنيا وإن ملكتها، لأن وعد الله أوثق عندك مما في يديك، ولأن ما عند الله خير من الدنيا وأبقى.
-ولم يغرّك الشيطان بأمانيه الخادعة، ووعوده الكاذبة، فأنت طامع في وعد الله، ومن أصدق من الله حديثا؟ ولهذا قال الله تعالى: (يا أَيُّهَا النّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) وهو الشيطان.
ولمّا كان الثبات على هذا العهد والوعد بحيث لا يُخلفه أبدًا غير مقدور عليه استثنى بعدها فقال: “مَا اسْتَطَعْتُ“، وهذا اعتراف من العبد بعجزه عن استيفاء حق الله تعالى، وعدم قدرته على بلوغ الكمال في طاعة الله، وشكر نعمه. والله تعالى يقول: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً)، فإذا كانت النعم الظاهرة لا تُحصى، فلن يقدر أحد أن يؤدي شكرها، فكيف بالنعم الباطنة التي يجهلها أصلا؟
وفي هذا الدعاء تعليم للناس أن حالهم النقص وعدم التمام، وأنّه لن يبلغ أحد أن يعبد الله كما أمره، ولا أن يطيعه كما يُحبّ ويرضى، ولا أن يشكر جميع نعمه، ولهذا الله تعالى لم يكلف النفس إلا وسعها. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشترط على من يبايعه أن يستثني، ويعلمّهم ذلك، فيقول ابْن عُمَرَ: «كُنَّا نُبَايِعُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَيُلَقِّنَّا: فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ».
فيُعاهد ربّه أنه على العهد والوعد، ولكن إذا وقع منه قصور، ونقص، وتفريط، وإساءة، بما سبق به القضاء والقدر، وبما طُبع عليه الإنسان من النقص، فيكون قد قدّم العذر عند الله أنّه على الوفاء بالعهد والوعد بحسب الوسع والطاقة، ولن يبلغ أداء ما يجب عليه كاملا؛ لأنه أعجز وأقل وأضعف من تأدية الربوبية حقها، والقيام على العهد والوعد من غير انحراف ما.
ولمّا أعلن عجزه وضعفه، وحتميّة وقوع القصور والغلط منه، رجع فالتجأ إلى الله أن يحميه من سوء صنيعه، فيقول: “أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ“، أي ألتجئُ وأعتصم بالله من شرّ صُنعي أو من شرّ الذي صنعتُ، من التقصير في واجب شكر النعم التي لا تُحصى، ومن شرّ الذنوب والآثام.
وتشمل الاستعاذة من الذنب أمرين: الاستعاذة من معاودة فعله، والرجوع إلى مثله. والاستعاذة من عقوبته وعدم مغفرته. وعقوبة الذنب دنيوية وأخروية؛ فمن آثار الذنوب في الدنيا، المصائب العامة والخاصة، والهمّ والغمّ، وضيق الرزق، وضنك العيش، وفساد البر والبحر، ومن عقوبة الذنوب أنها تدعو صاحبها إلى ذنوب أخرى حتى تُهلكه.
فيستحضر العبد وهو يقول هذا الدعاء أنه لولا حماية الله وعصمته من آثار ذنوبه لهلك، وأنه لا غنى له عن ربّه طرفة عين، وأن الموفّق هو من عصمه الله من الذنوب ومن آثارها.
ولمّا أعلن في هذا الدعاء عبوديته لله تعالى، وقلنا إن مدار العبودية على أمرين: كمال الحبّ، مع تمام الذلّ، كان لابد من تحصيلهما أوّلاً، وتحصيلُهما يكون بأمرين:
-مشاهدة المنّة والفضل والنعمة من الله، فهي تورث محبّته سبحانه.
-ومطالعة عيوب النفس، وهو الذي يورث التذلل له سبحانه.
وهذا ما جاء ذكره بعدها في هذا الدعاء العظيم.
شرح حديث سيد الاستغفار
ثالثا: الاعتراف
فتقول: “أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ” أي أعترف وأُقرّ وألتزم، فمن معاني البواء اللزوم، ومنه الحديث: “فقد باء بها أحدهما” أي لزمه الذي قال، ورجع إليه. و(نعمتك) مفرد بمعنى الجمع، ولم يقيّد النعمة لتشمل كل أنواع النعم الظاهرة والباطنة. فمعنى الدعاء أعترف بنعمك الظاهرة والباطنة التي لا تُحصى، وألزمها نفسي. وأقلّ درجات الشكر الاعتراف بالنعمة. وإذا شاهد العبد نعم الله تعالى التي أغدقها عليه، والتي يتقلّب فيها في كل حين، فإن ذلك يورثه محبة لربه سبحانه.
ثم يعترف بذنبه فيقول: “وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي” ففيه معنى الاعتراف والإقرار، وفيه معنى آخر؛ فمن باء بالذنب فإنه يحتمله رغماً عنه، ولا يستطيع أن يدفعه عن نفسه، ومنه قوله عز وجل: {فباءوا بغضب على غضب}.
فيعترف العبد بذنوبه وتقصيره، ويقرّ بمعاصيه، ولا يُنكر منها شيئا، ويلتجئ إلى الله في دفعها عنه، ويعترف أيضا بتقصيره في شكر النعم. وأُولى درجات التوبة والاستغفار الاعتراف الذنب والتقصير، وفي حديث الإفك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” فإنَّ العَبْدَإذَااعْتَرَفَثُمَّ تَابَ،تَابَ اللَّهُ عليه“، ولأجله كان دعاء يونس عليه السلام عظيما، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: “دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت “لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين”، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له”.
وهذا هو الفرق بين المؤمن والكافر، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حالهم يوم القيامة، فقال: “إنَّ اللهَ تعالى يُدنِي المؤمنَ، فَيضَعُ عليهِ كَنفَه وسِتْرَه من النَّاسِ، ويُقرِّرُه بذُنوبِه فيقولُ: أَتعرِفُ ذَنبَ كَذا؟ أَتعرِفُ ذَنبَ كَذا؟ فيقولُ: نعَم أَيْ رَبِّ، حتَّى إذا قَرَّرَهُ بذُنوبِه ورَأى في نَفسِه أَنَّه قد هَلكَ، قال: فإنِّي قد سَترتُهَا عليكَ في الدُّنيا، وأنا أَغفِرُهَا لكَ اليومَ، ثم يُعطَي كتابَ حسناتِه بِيمينِه. وأمَّا الكافرُ والمنافقُ فيقولُ الأشهادُ: هؤلاءِ الَّذينَ كذبوا علَى ربِّهم أَلا لَعنةُ اللهِ علَى الظَّالمينَ”.
ومن حاسب نفسه، ورأى ذنوبه، ولاحظ عيوبه، فإن هذا يورثه تذللا لربه، وخضوعا لمولاه، واستحياء من ذنوبه التي يُقابل بها نعم الله التي لا تُحصى.
وملاحظة النعم الظاهرة والباطنة، ومشاهدة كثرتها وعظمتها، وإدراك العجز عن إحصائها واليأس من حصرها، واليقين بمدى التقصير في شكرها، هذا كلّه يدفع العبد إلى رؤية جليل منّة الله عليه بهذه النعم، التي نالها من غير استحقاق ولا طلب. وهذا يوجب له محبّة ربّه، واللهج بذكره، ويوقن أنّ مقام الربوبية أجلّ من أن يوفيه العبد حقه، وأنّه مهما قدّم فلن يُحصي ثناء على الله.
ثمّ إذا التفت إلى جناياته، ونظر إلى تقصيره وإساءته، وتأمّل فيما أسلف من ذنوب ومعاصٍ، ووقف على خطرها عليه، وقارنها بعظيم إنعام الله عليه، وجميل ستره، عرف قدر نفسه، ونقصه، وأيقن أنّه ليس ثمّة إلا عفوه ورحمته، وأنه لولا فضل الله على هذه النفس وهدايته وتزكيته لها لما حظيت بخير ألبتة، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا}، فحينها يبلغ العبد تمام الذلّ لربه، والاستكانة والخضوع والتضرع له. وبهذا يتحقق القلب عندما يقول: «أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي»، فإن العبد يسير إلى الله بين حاديين: مطالعة المنة من الله، ومشاهدة التقصير من النفس؛ فإذا عمل صالحا فتّش عما فيه من عيوب، وعلم أنّ عبادته لا تصلح لله العظيم الجليل، ولا تُنال بها الجنة الطيبة الطاهرة. وإذا صفا له حال من العبادة والخشوع لاحظ منّة الله عليه، ونعمته أن أقامه بين يديه، وسمح له ببلوغ ما بلغه. فلا يخرج العبد عن قوله: “أبوء لك بنعمتك عليه، وأبوء بذنبي”، مطالعة المنة، ومشاهدة التقصير، وبهذا تتم له العبودية؛ بكمال الحبّ مع تمام الذلّ.
رابعا: الدعاء
وبعد كل هذه المقدمات يدعو الله فيقول: “فَاغْفِرْ لِي” والمغفرة معناها التغطية والستر، ومنه المِغفر ما ستر الرأس ووقاه في الحرب، والاستغفار هو طلب المغفرة. فتسأل الله ستر الذنوب، والوقاية من شرها، فالله هو الساتر للذنوب المُخفي للعيوب، فيسترها بمحوها، وعدم المؤاخذة عليها، ومحو آثارها، وصرف أعين الناس عنها. وقيل إنها لا تُمحى من الصحائف، حتى يقرر العبدَ عليها، ثم يتجاوز عنه ويمحو عقوبتها.
ومن أدب الدعاء أن تتوسل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته المناسبة للدعاء، فإذا سألت المغفرة تتوسل إلى الله تعالى بقولك: “فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ“، فتُثبت لله تعالى المغفرة وحده لا شريك له، وتوقن أنه لا يغفر الذنب سواه، كقوله تعالى: {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ}. وأن يعتقد أن الله يغفر الذنوب جميعا، وأنه لا يعجزه شيء، وأن مغفرته أوسع من ذنوب عباده، وأن العبد لو أتى الله بقراب الأرض خطايا وبلغت ذنوبه عنان السماء ثم استغفر الله فإنه الله يغفر له ولا يبالي، ولا يتعاظمه ذنب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا دَعا أحَدُكُمْ فلا يَقُلْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي إنْ شِئْتَ، ولَكِنْ لِيَعْزِمِ المَسْأَلَةَ ولْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ، فإنَّ اللَّهَ لايَتَعاظَمُهُشيءٌ أعْطاهُ”.
وهذا من توحيد الربوبية، أن تُثبت لله تعالى هذه الصفة وحده سبحانه، وهذا بحدّ ذاته من أسباب مغفرة الذنوب، أن يعلم العبد ويقر أن الله هو الذي يغفر الذنب وحده، كما في الحديث: “إنَّ عَبْدًا أصابَ ذَنْبًا فقالَ: رَبِّ أذْنَبْتُ فاغْفِرْ لِي، فقالَ رَبُّهُ: أعَلِمَ عَبْدِي أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ ويَأْخُذُ بهِ؟غَفَرْتُلِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ ما شاءَ اللَّهُ ثُمَّ أصابَ ذَنْبًا، فقالَ: رَبِّ أذْنَبْتُ آخَرَ، فاغْفِرْهُ فقالَ: أعَلِمَ عَبْدِي أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ ويَأْخُذُ بهِ؟غَفَرْتُلِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ ما شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أذْنَبَ ذَنْبًا، قالَ: رَبِّ أذْنَبْتُ آخَرَ، فاغْفِرْهُ لِي، فقالَ: أعَلِمَ عَبْدِي أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ ويَأْخُذُ بهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثَلاثًا، فَلْيَعْمَلْ ما شاءَ”.
وشبيه بهذا ما ورد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: “أنَّهُ قالَ لِرَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: عَلِّمْنِي دُعَاءً أدْعُو به في صَلَاتِي، قالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّيظَلَمْتُنَفْسِيظُلْمًاكَثِيرًا، ولَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أنْتَ، فَاغْفِرْ لي مَغْفِرَةً مِن عِندِكَ، وارْحَمْنِي إنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ”.
ثم ذكر جزاء هذا الدعاء العظيم: “مَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجنة”.
فجزاؤه دخول الجنة ابتداءً، وأي جزاء أعظم من هذا، وأيّ مطلوب للعبد أجلّ من الجنة؟ لكنّ هذا الجزاء له شرط، وهو أن يقوله مخلصا من قلبه، ومصدّقا للوعد الوارد فيه.
فيكون هذا الدعاء موجبا لمغفرة كلّ ذنوبه، وسببا لدخول الجنة ابتداء ولن يدخل النار؛ إما ببركة هذا الاستغفار يعفو الله عنه، وإما لأن من أيقن بما ورد في هذا الدعاء لن يعصي الله تعالى. فطوبى لمن ألهمه الله الاستغفار، وجعل هجيراه الدعاء بهذا الدعاء العظيم.
المراجع في شرح حديث سيد الاستغفار
معالم السنن للخطابي
أعلام الحديث للخطابي
شرح صحيح البخاري لابن بطال
الكواكب الدراري للكرماني
شرح المشكاة للطيبي
مدارج السالكين لابن القيم
جامع العلوم والحكم لابن رجب
التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن
عمدة القاري للعيني
فتح الباري لابن حجر
فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب للفيومي
شرح سنن أبي داود لابن رسلان.
نتائج الأفكار بشرح حديث سيد الاستغفار للسفاريني