على الرغم من أهمية الحديث ومن تحذير النبي ﷺ لنا من تلك الصفات المذمومة، إلا أن من بينهم صفة تجذّرت في القلوب وهي (الـمن) المن بالعطايا، من الصفات الخطيرة التي تحتاج إلى مجاهدة عظيمة، كي لا يسوق الجهل الإنسان فينسى نعم الله وفضله عليه!
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: “لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنَّانٌ، وَلَا عَاقٌّ، وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ”.
بطاقة تعريفية | الصحابي
سعد بن مالك بن سنان وكنيته أبو سعيد الخدري، صحابي جليل من الأنصار وفقيه عظيم، أمه أنيسة بنت أبي حارثة، روى عن النبي ﷺ الكثير من الأحاديث، وشهد الخندق وبيعة الرضوان، وهو من الذين ردهم النبي ﷺ في غزوة أحد لصغر سِنّه واستشهد أبوه بها، توفي سنة أربعة وسبعين من الهجرة.
ماهو المن
المن: هو التحدث والتعداد بالعطية أو النعمة على الآخذ بصورة تؤذيه، كأن يقول المنعم للآخذ: هل تذكر عندما أحسنت إليك وأعطيتك كذا وكذا.
وتكثُر صوره في الصدقة، وهو مبطلٌ لها، كما هو صريح في قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ”.
والمن خُلق سيء، وهو حرام وكبيرة من الكبائر، إذ يمحو الأجر ويُذهب جوهر الإحسان في النفس.
اقرأ أيضا:
شرح حديث مثل المؤمنين في توادهم
المن في الوحيين القرآن والسنة
– “وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ “.
– “يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ۖ قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ”، المن قد يكون في غير العطية، ذُكر في تفسير هذه الآية أن أعراب من بني أسد امتنوا على النبي ﷺ بإسلامهم وقالوا: أسلمنا من غير أن نقاتلك كما فعل غيرنا، فأنزل الله هذه الآية.
– عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: “ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ..” وعدّ منهم المنان.
– قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “يُسْتَرَاحُ رَائِحَةُ الْجَنَّةِ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةَ عَامٍ، وَلَا يَجِدُ رِيحَهَا مَنَّانٌ بِعَمَلِهِ، وَلَا عَاقٌّ، وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ”.
العلماء والمن آثار وأقوال
المن من أمراض القلوب، حذر منه العلماء والسلف الصالح، ولنا من آثارهم واحة ندور فيها حول مفهوم “المنّ” بين ثنايا أقوالهم ما يوضح لنا بجلاء مستوى ورعهم وتقواهم..
– فهذا ابن سيرين سمع رجلًا يقول لرجل: “وفعلت إِلَيْكَ وَفَعَلْتُ! -يعدد له ما أسدى إليه من معروف- فَيقول لَهُ: اسْكت فَلَا خَيْر فِي الْمَعْرُوفِ، إِذَا أُحْصِي”.
– وهذا سفيان يفسر المن بأن يقول الرجل لصاحبه: “أعطيتك فما شكرت”.
– وكان أبو عبد الرحمن بن زياد يقول: “إذا أعطيت رجلًا شيئا ورأيت أن سلامك يثقل عليه فكف سلامك عنه”.
– وعن الضحاك أنه قال: “ألا ينفق الرجل ماله خير من أن ينفقه ثم يتبعه منًا وأذى”.
– وورد عن بعض السلف: “من منّ بمعروفه سقط شكره، وأعجب بعمله حبط أجره”.
إنها عظمة الإسلام ورُقيّه في الحفاظ على مشاعر المسلم وعدم المساس بها أو التعدي عليها.
اطلع أيضا على:
صور المن
وللمنّ صور عديدة، إذ هي لا تقتصر على إتباع العطاء بالإيذاء بالقول فحسب، بل قد يكون المن والإيذاء بالفعل، وقد يكون بالقلب دون اللسان، ومن أمثلة ذلك أن يقول الرجل لمن يعطيه:
ألم أحسن إليك؟
ألم أعطيك كذا؟
لقد ساعدتك في كذا وكذا..
وغير ذلك مما يؤدي إلى إحراج مشاعره أمام الآخرين بذكر ما أسدى إليه من معروف أو نفقة.
ومن عِظم ذنب المن والأذى بعد الصدقة، فقد فضّل الشارع رد السائل بالقول المعروف على أن يتصدق عليه ثم يتبع ذلك بإيذائه والمن عليه بالقول أو الفعل، يقول الله عز وجل: “قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ”.
يقول أحد الشعراء:
أفسدتَ بالمن ما أسديت من حسنٍ ** ليس الكريم إذا أسدى بمنان
“كانت العرب تقول لمن يعطي ويمن يد سوداء، ولمن يعطي عن غير مسألة يد بيضاء، ولمن يعطي عن مسألة يد خضراء”. فأي الأيادي تحب أن تكون يدك؟
علاج المن
تبين مما سبق من الآيات والأحاديث مدى فداحة العقوبة التي تلحق بالمنان -عافانا الله وإياكم- ولكن المشكلة فيمن ابتُلي بمثل هذا الداء كيف يعالج داؤه؟ وكيف نتعامل مع من لا يردعه رادع وأصرّ على هذه الكبيرة؟
جمع العلماء عددًا من الوسائل التي يمكن للإنسان أن يتسلح بها وأن ينجح في مجاهدة نفسه، ومن ذلك:
– تذكر عظم هذا الذنب وأنه محبط للعمل ماحقٌ للثواب، موجب لغضب الله عز وجل، وكفى بالذنب أن يحرم مرتكبه من دخول الجنة، وكفى بذلك رادعًا قويًا يمنع المنان من المن بعطائه المادي أو المعنوي.
– محاولة الابتعاد عمن أسديت إليه معروفًا لفترة زمنية تنسيك ما قدمت إليه.
– عدم تعظيم العمل الذي تقدمه للآخرين، وإسداء الفضل لله عز وجل، فهو الذي جعلك قادرًا على أن تقدم لهم يد العون.
بيد أنه ينبغي أن نوضح مفهومًا دقيقًا قد يخلط المرء بينه في مسألة الفرح في حال التوفيق للقيام بالعمل الصالح، فهناك من يخالط نفسه الإعجاب والفخر بما قام به من عمل، فهذا من الفرح المذموم الذي يجعل صاحبه “منانًا”، وهناك من يفرح بتوفيق الله له وإكرامه بهذه النعمة فهؤلاء من يدخلون في قوله عز وجل: “قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ”.
- وخلاصة القول في علاج المن ما ذكره أحد السلف في قوله: “إذا اصطنعتم صنيعة فانسوها”.
ولكن، ماذا عن الشخص الذي ابتُلي بهذا الخلق المذموم ولم يردعه رادع، كيف يكون التعامل معه؟ يقول الرسول ﷺ: “المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم”، ومن هذا الحديث يتضح لنا أن آلية التعامل مع الإنسان المنان تكون بالصبر على أذاه، ومن الأفضل الزهد فيما عنده من معروف.
أحاديث مهمة:
والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون
ما معنى لا يدخل الجنة منان
والسؤال هنا.. هل الحديث يعني بعدم دخول المنان الجنة مطلقًا؟
قال بعض العلماء أن هذه الأخبار التي في أحاديث الوعيد -من فعل كذا لم يدخل الجنة، أو حرم الله عليه الجنة- إنما يقصد بها أن العاصي لا يدخل جنانًا معينة، أو أن منطقة معينة من الجنة تحرم على لمن أتى بهذه الذنوب أن يدخلها، وذلك لأن الجنة درجات ومراتب متفاوتة فلا يتساوى المؤمن بالعاصي، وليس المقصود بأنه يحرم من دخول الجنة مطلقًا كما زعم المعتزلة والخوارج أن مرتكب الكبيرة مخلدٌ في النار محرومٌ من دخول الجنة.
وقيل أن كل وعيد مذكور في الكتاب والسنة لأهل التوحيد إنما هو على شرط: إلا أن يغفر الله ويعفو عن تلك الخطيئة.
وقيل أيضًا أن المراد أنه لا يدخل الجنة مع أول طائفة تدخلها، بل يتأخر دخوله، وقد يعذب في النار، لكن في النهاية مصيره الجنة لأنه من أهل التوحيد.
وهذا كان خلاصة شرح حديث لا يدخل الجنة منان
صحة حديث لا يدخل الجنة منان ولا عاق ولا مدمن خمر
الحديث أخرجه جمع من أهل العلم كالإمام أحمد في مسنده والإمام النسائي في سننه وهو حديث صحيح صححه الألباني رحمه في السلسلة الصحيحة برقم: 670 ممكن الرجوع إليه.