من هو ربك وما دينك ومن هو رسولك

رحلة البرزخ

عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ، وَلَمَّا يُلْحَدْ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، كَأَنَّ عَلَى رُؤُوسِنَا الطَّيْرَ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: “اسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا”، ثُمَّ قَالَ: “إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ، اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ”. قَالَ: “فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِيّ السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا، فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ، وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ”.

قَالَ: “فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ، يَعْنِي بِهَا، عَلَى مَلَإٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى”.

قَالَ: “فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، [قَالَ: “فَإِنَّهُ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِ أَصْحَابِهِ، إِذَا وَلَّوْا عَنْهُ”]، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ، فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا عِلْمُكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللهِ، فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ. [وَهِيَ آخِرُ فِتْنَةٍ تُعْرَضُ عَلَى الْمُؤْمِنِ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]، فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ: أَنْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ”. قَالَ: “فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا، وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ”. قَالَ: “وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، [كُنْتَ وَاللهِ سَرِيعًا فِي طَاعَةِ اللهِ، بَطِيئًا عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، فَجَزَاكَ اللهُ خَيْرًا، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنَ الْجَنَّةِ، وَبَابٌ مِنَ النَّارِ، فَيُقَالُ: هَذَا كَانَ مَنْزِلَكَ لَوْ عَصَيْتَ اللهَ، أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ هَذَا، فَإِذَا رَأَى مَا فِي الْجَنَّةِ قَالَ]: رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي”، [فَيُقَالُ لَهُ: اسْكُنْ].

قَالَ: “وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ، مَعَهُمُ الْمُسُوحُ، فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ، حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ، اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللهِ وَغَضَبٍ”. قَالَ: “فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ، فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَإٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ، فَلَا يُفْتَحُ لَهُ”، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: “اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى، فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا”. ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ، فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]”، فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ، فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، [فَيَقُولُ: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَوْتَ] فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ، فَافْرِشُوا لَهُ مِنَ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا، وَسَمُومِهَا، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوؤُكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، [كُنْتَ بَطِيئًا عَنْ طَاعَةِ اللهِ، سَرِيعًا فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، فَجَزَاكَ اللهُ شَرًّا] فَيَقُولُ: رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ. [ثُمَّ يُقَيَّضُ لَهُ أَعْمَى أَصَمُّ أَبْكَمُ فِي يَدِهِ مِرْزَبَةٌ، لَوْ ضُرِبَ بِهَا جَبَلٌ كَانَ تُرَابًا، فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً حَتَّى يَصِيرَ تُرَابًا، ثُمَّ يُعِيدُهُ اللهُ كَمَا كَانَ، فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً أُخْرَى، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ]”

(رواه أبو داود (4753) وأحمد (18534، 18614) وهذا لفظ أحمد، وما بين معقوفين زيادات من روايات عند أحمد وأبي داود).

 

من ربك ما دينك من رسولك

هذا حديث عظيم يُحدّثنا فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن مستقبل محتوم، وغيب واقع لكل أحد.

يروي لنا فيه بعض تفاصيل الحياة البرزخية، وما يكون فيها من فتن وأهوال، ونعيم وعذاب، والقصد من قصّه لنا الاستعداد لهذا المصير المحتوم، وأخذ الأُهبة قبل حلوله، والتوقي من أسباب الخُسران والخيبة التي تكون فيه.

وكان عُثمان بن عفَّان رضي الله عنه إذا وقفَ على قبرٍ بكى حتَّى يبُلَّ لِحيتَهُ، فقيل له: تذكرُ الجنَّة والنَّار فلا تبكي، وتبكي من هذا؟ فقال: إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: “إنَّ القبْرَ أوَّلُ منزلٍ مِنْ منازِلِ الآخرة، فإنْ نجَا منهُ فما بعدَهُ أيسَرُ منهُ، وإنْ لمْ ينجُ منهُ فما بعدَهُ أشدُّ منهُ. قالَ: وقالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “ما رأيتُ مَنظرًا قطُّ إلَّا القبرُ أفظعُ منهُ”.

وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتخوّل أصحابه بالموعظة، وينتهز الفُرص المواتية للتذكرة، فبينما هم يستعدّون لدفن رجل من الأنصار؛ إذ جاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم فجلس، فجلسوا حوله خاشعين قانتين، ينتظرون فأخذ عودا فجعل ينكت به الأرض، كهيئة المتفكر المتأمل المهموم، ثم رفع رأسه وقال: “استعيذوا بالله من عذاب القبر، استعيذوا بالله من عذاب القبر، استعيذوا بالله من عذاب القبر”.

ثم أخذ يقصّ عليهم رحلة العبد في قبره، وهي أربع مراحل لا بدّ من سلوكها:

اقرأ أيضا: المؤنسات الغاليات

 

أولا: الاحتضار

فأوّل ما يعانيه العبدُ الانتقال من دار الدنيا إلى دار البرزخ، وأوّل منازل الآخرة فأمّا المؤمن فلا يلقى إلا البشارة، واللطف، والإحسان، فتنزل عليه ملائكة الرحمة وجوههم بيضاء كالشمس، معهم أكفان من الجنة، وحنوط من الجنة، وهو الطِّيب الذي يُخلط بالأكفان والأجساد، فيجلسون بعيدًا ينتظرون خروج روحه، فيراهم ويستبشر بهم، قال تعالى: ‌‌‌‌‌‌{أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)}، ومن البشائر بشرى الملائكة لهم بحسن الحال وبالدرجة الرفيعة عند النزع، كما قال سبحانه: {الَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32]. فيأتيه ملك الموت لقبض روحه، فيناديها ويبشّرها: “أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ، اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ”. فمن شدّة فرحه بما ينتظره من كرامة ونعيم وقرة عين تخرج روحه بسهولة ولطف، تسيل كسيلان قطرة الماء من فم السقاء.

أما الكافر فله شأن آخر، فيُلاقى بالوعيد والتهديد والتخويف من أول لحظة. فتنزل عليه ملائكة العذاب، وجوههم سوداء، معهم كفن من نار، فيجلسون بعيدا ينتظرون خروج روحه، فيزيده هذا رُعبا منهم. فيأتيه ملك الموت عند رأسه، فيقول: “أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ، اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللهِ وَغَضَبٍ”، فيُصيبه من الهمّ والغم والرعب والجزع الأمر العظيم، ويخاف أشد الخوف مما ينتظره، فتكره الروح مفارقة الجسد، فتفرّق في جسده، وتتشبّث بالعروق، فينتزعها ملك الموت انتزاعا شديدا من أقصى العروق، كما يُنزع السّفود، وهي الحديدة التي يُنظم عليها اللحم ليُشوى، إذا أخرج من الصوف المبلول، فيؤخذ معه عند الجذب شيء من ذلك الصوف بقوة وشدة. نسأل الله السلامة والعافية.

 

رحلة الروح إلى السماء

فإذا قبض ملك الموت روح العبد تأخذها منه الملائكة ولا تتركها عنده طرفة عين. فأما المؤمن فتكفّنه ملائكة الرحمة بذلك الكفن والحنوط، فتنبعث منه أطيب رائحة، فيصعدون بروحه إلى السماء، فلا يمرون على جمع من الملائكة إلا فرحوا بهذه الروح الطيبة، وتُفتح له أبواب السماء حتى يصل إلى السماء السابعة، ويشيّعه من كل سماء المقرّبون، ويأمر الله الملائكة أن يكتبوا كتاب هذا العبد المؤمن في عليين، وهذا مصداق قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ)، أي أنّ كتاب أعماله الصالحة مُثبت في ديوان الخير في مكان عالٍ في الجنة، وهو كتاب مسطور معلّم بعلامة، ويحضره المقربون من الملائكة ويحفظونه.

وقد كتب الله تعالى أمراً لا يتخلّف، وهو قوله سبحانه: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى)، فهنا تنتهي رحلته إلى السماء، فقد كتب الله تعالى أن مصير العبد إلى الأرض، ومنها يُبعث يوم القيامة، فتُعاد الروح إلى الجسد بكرامة ولطف.

وأما الكافر، فبعد أن يقبض ملك الموت روحه، تأخذها منه ملائكة العذاب ولا تتركها عنده طرفة عين، تعجيلا له بالعذاب، فيجعلونها في تلك الأكفان من نار. وقد ورد في القرآن أنّهم يضربونه ويوبّخونه، كما قال سبحانه: (وَلَوْ تَرى إِذِ الظّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)، أي: لو رأيتم الظالمين في سكرات الموت وشدته، والملائكة باسطو أيديهم إليهم بالضرب والتعذيب، كما قال سبحانه في الآية الأخرى (فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وأدبارهم)، يقولون لهم تعنيفا: أخرجوا أنفسَكم إلينا لنقبضها، اليوم تجزون عذاب الذلّ والهوان بسبب كفركم واستكباركم.

ثم تنبعث منه رائحة الجيفة كأنتن رائحة، ويصعدون بروحه إلى السماء، فيشمئز الملائكة من رائحته الخبيثة، ويذكرونه بأقذع الأسماء، فإذا استفتحوا له باب السماء الدنيا فلا يُفتح له نكاية فيه وطردًا له من أسباب الرحمة والرفعة، وهذا مصداق قول الله تعالى: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]. ثمّ يأمر الله أن يُكتب كتاب أعماله في سجين في الأرض السفلى، قال تعالى: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين). أي تُكتب أعماله الخبيثة في ديوان الشر وسجل أهل النار في الأرض السفلى في حبس وضيق شديد. وتُطرح روحه من السماء إلى الأرض طرحًا، يصوّرها قوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ، فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31].

اطلع على: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيركم من تعلم القران وعلمه

 

عودة الروح إلى الجسد والفتنة العظيمة

وفي هذه المرحلة من الرحلة البرزخية تُعاد روح العبد المؤمن والكافر إلى جسده، فيسمع طرق نعال أهله وأصحابه الذين شيّعوا جنازته إذا ولّوا منصرفين، فيتيقّن أنّه وحيد، لا ينفعه الآن لا مال ولا جاه ولا خلة ولا شفاعة ولا صديق حميم، إنما ينفعه عمله الصالح.

وعودة الروح إلى الجسد لا يعني أنّه يحيا حياة مستقرة في قبره، بل هو ردٌّ عارض، فهذا لا يُعارض أن ثمّة حياتان وموتان لا غير، لقوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11]، فهاتان الحياتان مستقرتان، وأما رد روحه في القبر لأجل السؤال فعارض، وليس حياةً ثالثة.

فتبدأ هنا أعظم فتن الممات، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من فتنة المحيا والممات، ويلاقي العبد هنا أخطر فتنة بعد فتنة الدجال، وهي فتنة القبر وسؤال الملكين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ ‌تُفْتَنُونَ ‌فِي قُبُورِكُمْ مثل أو قريبًا مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ”، والفتنة هنا بمعنى الابتلاء والاختبار. وقد رأى بعض العلماء أن الفتنة هي للمؤمن والمنافق الذي كان يُظهر الإسلام في الدنيا، والذي كان محسوبا على المسلمين في الدنيا، أما الكافر فلا يُسأل، بل يُعذّب مباشرة. وقد وردت روايات تؤيّد هذا، ووردت الروايات الصحيحة تشير إلى أن الفتنة تكون للكافر كما تكون للمنافق.

ويقع –النعيم والعذاب- على الجسد والروح معا، وهذا الحديث يدل على ذلك.

من ربك ما دينك من رسولك

فيأتي العبدَ ملكان فظيعا الصورة، أسودان أزرقان، شديدا الغضب، وهما منكر ونكير، سمّيا بهذا لأنه لا يعرفهما، ولم ير قط مثل صورتهما. فيكلمانه بغلظة، وينتهرانه فتنةً له، حتى يظهر من يثبت على الحق، ومن يتزعزع. فيجلسانه، ويسألانه عن ثلاث: من ربك؟ ما دينك؟ ما هذا الرجل المبعوث فيكم؟

فأما المؤمن فيثبّته الله تعالى، كما قال سبحانه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]، فلا يخاف منهما، لأن من خاف الله في الدنيا أمّنه يوم القيامة، وهذه آخر فتنة تعرض للمؤمن.

فيجيب المؤمن بثباتٍ، ربّي الله، وديني الإسلام، ونبيّي محمد رسول الله. فيشددان عليه المسألة ويقولان: وما يدريك بم تقول؟ فيخبرهم عن مصدر ذلك: قرأتُ القرآنَ وآمنتُ بما جاء به أنه حقٌّ وصدق، ووجدتُ فيه الأدلة الظاهرة المتكاثرة على ألوهية الله تعالى، ومن ذلك قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] و{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [غافر: 62] وغير ذلك من الآيات. ووجدت فيه الإثباتات الواضحة على صحة دين الإسلام دون غيره، ومن ذلك قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وكذلك: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وكذلك: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]؛ فعلمتُ أن الدينَ المَرضيّ عند الله هو الإسلامُ. ووجدت فيه البراهين الساطعة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29] و{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] وغير ذلك من الآيات الدالة على أنه بُعث لكافة الخلق.

ووجه استدلاله من القرآن على صحة النبوة هو أن القرآن أكبرُ معجزات النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإذا تفكَّر العبد في القرآن علم أنه معجز، وأنه كلامُ الله تعالى لا كلام البشر، والله تعالى لا يُنزل كلامَه إلا على رسول، فيستدل بذلك على أن مَن أُنزِلَ عليه هذا الكلامَ رسولُ الله حقا.

وأما الكافر والمنافق فيسأله الملكان نفس الأسئلة، مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي.

وهذه الكلمة تدلّ على شدة الحيرة والعجز التام عن الجواب بأيّ كلمة مفيدة، حتى أنّ المنافق ينسب هذا القول لغيره، فيقول: “سمعتُ الناس يقولون، فقلتُ”.

وهذه حال من لم يُثبّته الله تعالى عند هذه الفتنة العظيمة، قد يكون له علم سابق بالربّ الحق والنبي الحق والدين الحقّ، لكن لمّا لم يصحب هذا يقين، وعقيدة راسخة، وعمل واستسلام وانقياد فإنه يبقى في ريبه يتردد، ويزداد حيرة على حيرته، لا سيما مع هذا الموقف المفزع من هذين الملكين.

 

معنى لا دريت ولا تليت

فيجيبه الملكان حينها تقريعا وتبكيتا، فيقولان له: “لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَوْتَ، وَلَا اهْتَدَيْتَ”.

وأكثر الروايات وردت بالياء “تليت”، واختلف في معناها:

– فقيل: “تليت” أصله “تلوت”، وإنما ذُكرت بالياء مشاكلة لكلمة “دريت”، ومعناها: لا فهمت ولا قرأت القرآن، أو لا علمت ولا اتبعت من يدري.

– وقيل: معناها “قصّرت”، أي لا دريت، ولا قصّرت في طلب الدراية، ومع ذلك لا تدري.

– وقيل: صوابها “ائتليت” بوزن افتعلت، أي ما استطعت.

– وقيل صوابها: “ولا أَتْليت”، يدعون عليه أن لا يكون له أتباع، وهو من الإتلاء في الإبل، إذا لم تلد أولادا يتبعونها.

– وقيل: “تليت” إتباع لفظي، لا معنى لها. ويُطلق هذا كثيرا في اللغة، بأن تتبع الكلمة الكلمةُ على وزنها مشاكلةً، دون أن يكون للكلمة الثانية معنى كقولهم: جائعٌ نائعٌ، وساغبٌ لاغبٌ وعطشان نطشان، وخراب يباب، حلٌّ وبل.

وخلاصة المعنى أنهم يعنّفونه بهذه الكلمات، فيقولون له: لا علمت الحقّ والصواب، ولا قرأت القرآن واتبعته، ولا اتبعت من يدري، ولا اهتديت إلى الصراط المستقيم.

 

 

نعيم القبر وعذابه

وأخيراً تأتي المرحلة الأخيرة من هذه الرحلة، هذه المرحلة التي فيها النعيم للمؤمن، والعذاب للكافر والمنافق. والنصوص في إثبات ذلك متواترة، وإثباته مذهب أهل السنة، ولا ينكره إلا المبتدعة الضلال.

فأما المؤمن، فأوّل ما يُقابل به بعد فتنة الملكين أن يأتي تصديقه من السماء، أنّه حقًّا كان يؤمن بذلك في الدنيا، بإخلاص ويقين، فهو مستحقّ للإكرام.

فيُفرش له بساط من الجنة، ويُلبس من ثياب الجنة، ويُفتح له باب من الجنة فتصلُه رائحتها الطيبة، وينوّر له في قبره، ويُفسح له فيه إلى ما انتهى إليه بصره.

وقد ورد تقييد ذلك في بعض الروايات بأنه يُفسح له سبعون ذراعا في سبعين. فقد يكون المعنى واحدًا، وذلك أن السبعة وما اشتقّ منها كثيرا ما تُستعمل في اللغة على إرادة الكثرة والمبالغة والنهاية، لا على الرقم المعروف، ومن ذلك قول الله تعالى: (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ)، فالعدد هنا للمبالغة، وليس لتحديد العدد، فلا مفهوم له، أي لو استغفرت لهم بلا حدٍّ فلن يغفر الله لهم.

فقد يكون استعمال السبعين ذراعا في بعض الروايات المراد به المبالغة، ويوافق الرواية الأخرى أنه يُفسح له مدّ بصره.

وقيل غيره هذا، فذكر بعضهم أن السّبعين هي في توسّع القبر، وأما مدّ البصر فهو ما يُعرض له من الجنة. وقيل: السبعون لمن تقلّ درجته عمّن يُفسح له مد بصره. وكلّ هذا، قد لا توافقه الروايات. وكلّ هذا من علم الغيب، ومن حياة غير حياة الدنيا، فنؤمن به، ولا نعلم كيفيته، ولا نستبعد عن قدرة الله تعالى شيئا.

ثم يأتيه من يؤنس وحشته في قبره، رجل جميل الوجه، جميل الثياب، طيب الرائحة، طيب الكلام، فيبشّره بحُسن العاقبة، وأنّه يعيش الأيام التي كان يؤمن بها من الغيب، قد صارت الآن واقعا، وسيلقى الجزاء الذي كان يوعد. فيزداد المؤمن استبشارًا بهذا المظهر وهذا الكلام، فيتطلّع لمعرفة هذا الأنيس، فيقول أنا عملك الصالح.

نعم، هذا الذي يبقى، وهذا الذي ينفع الآن، وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (‌يَتْبَعُ ‌الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ: يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عمله). فهذا الشكل الجميل والريح الطيبة والكلام الحسن هي من صُنعك، هي من عملك، فقد كُنت في الدنيا من المسارعين إلى طاعة الله، ومن المتجافين المتباطئين عن معصية الله، فجزاك الله خيرا، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.

اقرأ أيضا:

شرح حديث إذا مات الإنسان انقطع عمله

ترفع للميت بعد موته درجته

وليُدرك المؤمن حجم النعمة التي هو فيها، لابد أن يُظهر له ضدها، فبضدّها تتميز الأشياء، فيُفتح له باب من النار وباب من الجنة، ويُرى مقعده من النار لو كان عاصيا، ثم يُرى مقعده الذي ينتظره من الجنة، وقد قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ لَوْ أَسَاءَ، ‌لِيَزْدَادَ ‌شُكْرًا، وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ إِلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ لَوْ أحسن، ليكون عليه حسرة). وهكذا يتنعّم المؤمن بكلّ حواسّه، فلا يسمع إلا أطيب كلام، ولا يشمّ إلا أطيب ريح، ولا يرى إلا ما يسرّ، ولا يسمع إلا ما يُبهج النفس، ولا يبشّر إلا بالخير، ولا يصاحبه إلا خير أنيس.

فحينها يستعجل المؤمن فيقول: “رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي” وأخبرهم عن حالي، ليفرحوا ولا يحزنوا عليّ، كما قال الرجل الناصح: ﴿قِيلَ اُدْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ ‌قَوْمِي ‌يَعْلَمُونَ (٢٦) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾. فيُقال له: اسكُن، واهدأ، ونَمْ صالحًا نومةَ العَرُوسِ الذي لا يوقظُه إلا أحبُّ الناسِ إليه، أي نَمْ في القبر على أعز حال، وأطيب عيش، وأرغده في الاستراحة، كما ينام العروس، ثمّ لا يوقظك إلا أحبّ الناس إليك برفق ولين ومحبة. فيبقى كذلك حتى يبعثَه اللهُ من مضجعِه. هذه حال المؤمنين، جعلنا الله منهم.

وأمّا المنافق والكافر، فحين لا يحار جوابًا، يأتي تكذيبه من السماء، أي كذب في دعواه أنّه لا يدري من ربه وما الدين الحق، ومن هذا الرجل الذي بُعث فيهم؛ فالكفار يعلمون كلّ ذلك، ولكنّهم يكفرون حسدًا وتكبّرا، كما قال تعالى عن قوم فرعون: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا ‌وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾. فيفرشون له فراشا من نار، ويفتحون له بابا إلى النّار، فيصلُه حرّها، وهو تأثير النار، وسمومها، وهي الريح الحارَّة. وتُؤمر الأرض فتجتمع عليه وتعصره، ويُضيّق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويدخل عظم كل جانب في الجانب الآخر، ويبقى على هذه الحال حتى يبعثَه اللهُ.

ثم يأتيه من يزيده وحشة وخوفًا، يأتيه رجل قبيح الوجه والثياب، له رائحة خبيثة، فيبشّره بسوء المنقلب والعاقبة، ويوعدُه بالعذاب الذي كان يُنكره، فيتطيّر بطلعته، ويشمئزّ من منظره، فيسأله من هو؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، فلا تستغرب، فهذا لأنك كُنت متثاقلا راغبا عن طاعة الله، سريعا مجتهدًا في معصية الله، فعاقبتك أن جزاك الله شرًّا، والجزاء من جنس العمل.

ثم يزيدونه عذابًا نفسيًّا إلى عذابه الحسّيّ، فيُفتح له باب إلى الجنة، ويرى ما فيها من النعيم العظيم، ويُقال له: هذا منزلك لو أنّك أطعت، أما وقد كفرت فقد أبدلك الله به مقعدًا من النار، ويُفتح له باب من النار فيرى مقعده منها الذي ينتظره، فحينها يتقطّع كمدًا وحسرة وندامة على ما فرّط، فيقول: “رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ”، يفضّل البقاء في عذاب القبر الذي يعانيه على أن ينتقل إلى الدار الآخرة؛ لعلمه بما ينتظره هناك.

يسأل هذا، ولكن لن يُجيبه أحد، بل جوابه يأتيه على يد ملك يحمل في يده مرزبة، وهي المطرقة العظيمة من الحديد التي يُكسر بها المدر، لو ضُرب بها جبل لكان ترابًا. فيضربه بها فيصير تُرابًا، ثم يعيده الله كما كان، فيضربه ضربةً أخرى، فيصيح صيحة يسمعه كل شيء، إلا الثقَلين، أي الإنس والجنّ. وهذا حال الكافر والمنافق، نسأل الله السلامة والعافية.

ونختم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم: “اللَّهُمَّ إنِّا نعُوذُ بكَ مِن عَذَابِ القَبْرِ، ومِنْ عَذَابِ النَّارِ، ومِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا والمَمَاتِ، ومِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ”.

 

المراجع في شرح من ربك ما دينك من رسولك

التمهيد لابن عبد البر

الاستذكار لابن عبد البر

تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة للبيضاوي

المفاتيح شرح المصابيح لمظهر الدين الزَّيْداني

شرح المشكاة للطيبي

فتح الباري لابن حجر

التفسير المنير لوهبة الزحيلي

Scroll to Top