أنا الذي سمتني أمي حيدرة
الحديث النبوي:
عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: “خرَجْنا إلى خيبرَ وكان عمِّي عامرٌ يرتجِزُ بالقومِ وهو يقولُ:
واللهِ لولا اللهُ ما اهتدَيْنا ** ولا تصَدَّقْنا ولا صلَّيْنا
ونحنُ عن فضلِك ما استَغْنَيْنا ** فثبِّتِ الأقدامَ إنْ لاقَيْنا
وأنزِلَنْ سكينةً علينا
فقال النَّبيُّ ﷺ: “مَن هذا؟” قالوا: عامرٌ. قال: “غفَر لكَ ربُّكَ يا عامرُ”، وما استغفَر رسولُ اللهِ ﷺ لِرجُلٍ خصَّه إلَّا استُشهِد، قال عُمَرُ: يا رسولَ اللهِ لو متَّعْتَنا بعامرٍ، فلمَّا قدِمْنا خيبرَ خرَج مَرْحَبٌ يخطِرُ بسيفِه وهو ملِكُهم وهو يقولُ:
قد علِمَتْ خَيبرُ أنِّي مَرْحَبُ ** شاكي السِّلاحِ بطَلٌ مُجرَّبُ
إذا الحروبُ أقبَلَتْ تَلَهَّبُ
فنزَل عامرٌ فقال:
قد علِمَتْ خَيبرُ أنِّي عامرُ ** شاكي السِّلاحِ بطَلٌ مُغامِرُ
فاختلَفا ضربتَيْنِ فوقَع سيفُ مَرحَبٍ في فرَسِ عامِرٍ، فذهَب لِيسفُلَ له فرجَع سيفُه على نفسِه، فقطَع أَكْحَلَه، فكانت منها نفسُه، وإذا نفَرٌ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ ﷺ يقولونَ: بطَل عمَلُ عامرٍ قتَل نفسَه، فأتَيْتُ النَّبيَّ ﷺ وأنا أبكي فقُلْتُ: يا رسولَ اللهِ بطَل عمَلُ عامرٍ؟ فقال رسولُ اللهِ ﷺ: “مَن قال هذا؟” قال: قُلْتُ: ناسٌ مِن أصحابِكَ فقال ﷺ: “بل [له] أجرُه مرَّتَيْنِ”، ثمَّ أرسَلني رسولُ اللهِ ﷺ إلى علِيِّ بنِ أبي طالبٍ فأتَيْتُه وهو أرمَدُ فقال: “لَأُعطِيَنَّ الرَّايةَ اليومَ رجُلًا يُحِبُّ اللهَ ورسولَه ويُحِبُّه اللهُ ورسولُه”، فجِئْتُ به أقودُه وهو أرمَدُ حتَّى أتَيْتُ به النَّبيَّ ﷺ فبصَق في عينِه فبرَأ وأعطاه الرَّايةَ وخرَج مَرحَبٌ فقال:
قد علِمَتْ خيبرُ أنِّي مَرْحَبُ **شاكي السِّلاحِ بطَلٌ مجرَّبُ
إذا الحروبُ أقبَلَتْ تَلَهَّبُ
فقال علِيُّ بنُ أبي طالبٍ:
أنا الَّذي سمَّتْني أمِّي حَيْدَرَهْ ** كلَيْثِ غاباتٍ كريهِ المنظَرَهْ
أُوفِيهم بالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ
قال: فضرَبه ففلَق رأسَ مَرْحَبٍ فقتَله وكان الفتحُ على يدَيْ علِيِّ بنِ أبي طالبٍ.
اقرأ:
شرح حديث ليس منا من لم يرحم صغيرنا
خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ
قول علي أنا الذي سمتني أمي حيدرة
“أنا الذي سمتني أمي حيدرة”، هكذا بكل فخرٍ واعتزاز، كلمات تصدح من سيدنا علي رضي الله عنه في ساحة المعركة، تتوالى الأحداث وتتصارع، هناك.. ترمُق علي، فتح الله عليه، فقتل مرحب اليهودي، فكان وحده بأُمة، ليقول: هذا أنا.. فمن أنتم؟
الصحابي الجليل سلمة بن الأكوع
سلمة بن عمرو بن الأكوع، هو سنان بن عبد الله بن قشير الأسلمي المدني، كنيته أبو إياس أو أبو مسلم، صحابي جليل من الذين شهدوا بيعة الرضوان، كان يقيم في الربذة شرق المدينة النبوية، شهد خيبر، وكان قد غزا مع النبي ﷺ سبع غزوات وتسعٌ مع زيد بن حارثة، له ابن يُدعى إياس، وهو من الذين رووا عنه، مات سلمة في المدينة سنة 74 من الهجرة، وقيل في آخر خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم.
اقرأ: شرح حديث ليس من البر الصوم في السفر
في ظلال الحديث
من الغزوات المهمة التي يسّرها الله سبحانه وتعالى لرسوله وأصحابه رضوان الله عليهم، والتي كان لها أثرٌ كبير للمسلمين -معنويٌ ومادي- هي غزوة خيبر، وخيبر مكان يقطن به اليهود، مليء بالحصون والمزارع، مشهور بكثرة الماء والطعام، يبعد عن المدينة بحوالي 173 كيلو متر تقريبًا، هذه هي خيبر من منظور جغرافي.
خرج النبي ﷺ مع أصحابه في الليل متجهين إلى خيبر، وبينما هم سائرون قال رجل من الصحابة –قيل إنه أسيد بن حضير- لعامر بن الأكوع –وهو عم سلمة بن الأكوع-: “يا عامر، ألا تسمعنا من هُنَيْهاتِك”، يقصد قصائده وشعره، فعامر رجلٌ حدّاء مشهورٌ بالشعر، والحدّاء هو من يغني للإبل وهو يسوقها، فبدأ عامر ينشد قائلًا أبياته المشهورة:
«اللَّهمَّ لولَا أنتَ ما اهْتَدَيْنا *** ولَا تَصَدَّقْنا ولَا صَلَّيْنا»
أي: لو لم تهدينا يا الله ما اتبعنا الحق ولا اهتدينا لأعمال الإسلام من صدقة وصلاة ونحو ذلك.
وهكذا ظل يشدو عامر إلى أن سمعه النبي ﷺ فقال: “من هذا السائق؟” فقالوا: عامر بن الأكوع، فدعا له النبي ﷺ وقال: “غفر لك ربك يا عامر”، وفي هذا دلالة على أنه سيُستشهد في الغزوة، فالنبي ﷺ لم يستغفر لرجل خاصة إلا واستشهد، فقال عمر: يا رسول الله لو متعتنا بعامر؟
- تشريع: عندما وصل المسلمون إلى يهود خيبر حاصروهم، وحلّت بالمسلمين مجاعة شديدة إلى أن فتح الله عليهم خيبر، فلما أتى الليل أوقدوا نارًا، فسألهم النبي ﷺ عن هذه النار فأخبروه أنه يُطهى عليها لحم الحمر الإنسية، فنهاهم النبي ﷺ عن أكلها وأمرهم أن يلقوها، والحمر الإنسية هي الحيوانات التي يستعملها الناس في الركوب والأحمال، وهكذا في هذه الغزوة شُرّع تحريم أكل الحمر الإنسية بقول صريح من النبي ﷺ.
بدأ المسلمون مواجهة اليهود، وأخذ عامر سيفه –وكان قصيرًا- ليضرب به اليهودي فرجع طرفه إلى عامر فأصاب ركبته فمات من هذه الإصابة، وبدأ البعض من أصحاب النبي ﷺ يشيع قول بطل عمل عامر قتل نفسه، فأنكر النبي ﷺ قولهم وقال: “بل له أجره مرتين”، وأرسل النبي ﷺ سلمة إلى علي بن أبي طالب فأتاه علي وهو مريض يشتكي عينيه، فأخبرهم النبي ﷺ: بأنه سيعطي الراية غدًا لرجل من أصحابه، من صفاته أنه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، وبات الصحابة ليلتهم يتساءلون من سيحظى بهذا الشرف، وذلك لتزكية النبي ﷺ له، وفي اليوم التالي طلب النبي ﷺ علي، فجاؤوا به، فبصق النبي ﷺ في عينه فبرأت وأعطاه الراية، وخرج مرحب يقول:
قد علِمَتْ خيبرُ أنِّي مَرْحَبُ ** شاكي السِّلاحِ بطَلٌ مجرَّبُ
فقال علي أبياته المشهورة:
أنا الَّذي سمَّتْني أمِّي حَيْدَرَهْ ** كلَيْثِ غاباتٍ كريهِ المنظَرَهْ
أُوفِيهم بالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ
اطلع على حديث: من هو ربك وما دينك ومن هو رسولك
ما معنى حيدر
وحيدرة هو اسم من أسماء الأسد، وسُمي علي أسدًا في أول ولادته على اسم جده لأمه، وكان أبو طالب غائبًا فلما رجع سمّاه عليًّا، وكان مرحب قد رأى في نومه أسدًا يفترسه، فذكّره علي بما رآه لكي تضعف نفسه ويخاف.
ثم ضربه علي وفلق رأسه فقضى عليه، وبذلك قُتل مرحب أحد أشهر فرسان يهود خيبر على يد علي بن أبي طالب، ثم كان الفتح.
رجلٌ يحبه الله ورسوله
ابن عم النبي ﷺ وزوج ابنته فاطمة، أول من أسلم من الصبيان، ورابع الخلفاء الراشدين، ومن العشرة المبشرين بالجنة، كانت حياة علي من صغره إلى موته محفوفة بالتضحيات ونصرة النبي ﷺ، أولها عندما أفدى قائده بحياته ونام في فراشه ﷺ ليلة الهجرة، وكان مخلصا يبلغ حينها العشرين من عمره، لم يخشى بريق السيوف، لا يهاب أعداء الرسول، شهد كل المشاهد مع النبي ﷺ عدا غزوة تبوك، وهو من الأوائل الذين جاهدوا في سبيل الله بجانب حمزة وعبيدة بن الحارث، ومن الرجال الذين ثبتوا مع النبي ﷺ خلال غزوة أحد.
اشتهر بالدهاء، وبشدة ورعه وفطنته، فعندما أتت امرأة إلى عمر وقد ولدت طفلًا لستة أشهر أمر برجمها، فقال له علي ألم تقرأ قول الله تعالى: “وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا”؟ فالحمل يكون في ستة أشهر والفصال وهو في عامين، فخلّى عمر سبيل المرأة.
هكذا ضرب علي مثالًا للجندي الصادق لدعوة دينه، كيف لا وهذه تربية بيت النبوة.
أخبر النبي ﷺ أنه سيُقتل فقال: “ألا أحدثكما بأشقى الناس رجلين؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: “أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذه، يعني قرنه، حتى تبل منه هذه، يعني لحيته”،
قُتل علي على يد الشقي الخارجي عبد الرحمن بن ملجم، وذلك عام أربعين من الهجرة في السابع عشر من رمضان..
لتنتهي الحكاية بكلمات خلّدها التاريخ بقوله ﷺ له: “أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟”.
استفد من حديث: الراحمون يرحمهم الرحمن
- من أقواله رضي الله عنه:
“خمس خذوهن عني: لا يرجو عبد إلا ربه، ولا يخاف إلا ذنبه، ولا يستحيي جاهل أن يسأل عما لا يعلم، ولا يستحي عالم إذا سُئل عما لا يعلم أن يقول: الله أعلم، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له”.
قيم نبوية
من هذا الحديث نستلهم فوائد من حياة النبي ﷺ تفتح لنا آفاق جديدة منها:
- الراية هي العَلم الذي يتخذه جيش المسلمين في الغزوة، ولا يحمله إلا قائد الجيش، وفي الحديث دلالة على مشروعية اتخاذ الراية في المعركة.
- إخبار النبي ﷺ بالأمور الغيبية، وهذه معجزة ظاهرة ودليل من دلائل نبوته ﷺ.
- تحريم أكل لحوم الحمر الإنسية لنجاسة لحمها، والنبي ﷺ قال: “ألا إنَّ اللهَ ورَسولَه يَنهَيانِكم عنها؛ فإنَّها رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطانِ”.
- إنكار النبي ﷺ اتهام الناس لعامر بالباطل، وفيه من التحذير من التقوّل والاعتداء على الغير دون بينة.
- جواز الإنشاد وقول الشعر.
- ذكر منقبة نبيلة لعامر بن الأكوع وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم.
- إثبات صفة المحبة لله عز وجل فالله يحب عباده الصالحين وأهل الإيمان والإحسان ومنهم أمير المؤمنين رابع خلفاء الراشدين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.