قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- عن عبادة بن الصامت أن رسول الله ﷺ قال : تَعَالَوْا بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ وَلَا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ قَالَ فَبَايَعْتُهُ عَلَى ذَلِكَ
أورد -رحمه الله- هذا الحديث, حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- وهو من الأنصار وصله هذا الحديث في الترجمة، والترجمة في “علامة الإيمان حب الأنصار” إن هذا الحديث من جملة الأحاديث المبينة لحب الأنصار.
وبداية الأنصار وبداية النصرة من البيعة حيث كانت هذه البداية العظيمة لأعمال جليلة ومقامات رفيعة كان -ﷺ- في المواسم يعرض نفسه على القبائل من ينصرني حتى أبلغ كلام ربي، حتى أكرم الله سبحانه وتعالى نفرًا ستة من الأنفار فأسلموا وآمنوا بالنبي -ﷺ- وفي العام المقبل جاءوا إليه هؤلاء الستة ومعه ستة آخرون وبايعوه البيعة الأولى ثم في العام الذي بعده جاؤوا بعدد أكبر يفوق السبعين وبايعوه مرة أخرى وبعد ذلك أذن النبي -ﷺ- بالهجرة إلى المدينة إلى أن هاجر هو -ﷺ- بنفسه، فإذا هذا الحديث ساقه لبيان مكانة الأنصار بدءًا من تلك البيعة الذي عاهدوه من النبي -ﷺ-في موسم الحج.
قوله “بايعوني” لأهل العلم في هذه البيعة في هذا الحديث هل هي البيعة التي كانت في مكة وهي البيعة الأولى أم أنها كانت بعد ذلك
لأهل العلم في ذلك قولان منهم من يقول أن هذه البيعة كانت قبل الهجرة في مكة ومنهم من يقول إنها كانت بعد ذلك، وجاء في بعض روايات الحديث ما يفيد أنها البيعة التي كانت في مكة قبل الهجرة حيث أنه -ﷺ- في البيعة الأولى بايعهم على ذلك ولم يبايعوه على القتال وفي المبايعة الأخرى بايعهم على النصرة والقتال والدفاع عن النبي -ﷺ- وعن الدين وعلى إثر تلك البيعة أذن -ﷺ- بالهجرة إلى المدينة.
قال “بايعوني” من المبايعة قيل: أصل المبايعة من البيع وقيل من مد الباع، قال بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا وهذا زبدة دعوة المرسلين وخلاصة رسالتهم، الدعوة إلى إخلاص الدين وإفراده وحده بالعبادة والبعد عن الشرك كله دقيقه وجليله، فأول أمر بايعوه عليه ألا يشركوا بالله شيئًا
والشرك هو: تسوية غير الله بالله في شيء من خصائص الله
لماذا قدم الشرك
“وشيئًا” جاءت نكرة في هذا السياق وهي تفيد العموم أي أقل شئ، وبدأ النبي -ﷺ- بأمر الشرك وهذا فيه دليل على أن الشرك أخطر الذنوب وأعظم الآثام. والقاعدة أن البدء في الأمور يدل على تقديم وأهمية المبدوء به وفي النواهي أيضًا يدل على شدة خطورة المبدوء به وهو أعظم النواهي وأخطرها، وفي القرآن قال الله سبحانه وتعالى في صفات عباد الرحمن:” وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا.”
قدَّم أمر الشرك لأنه أخطر الذنوب وأكبر الجرائم علي الإطلاق، والشرك أعظم وأكبر من الزنا والسرقة ولهذا الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي يُذكر فيها أنواع من المحرمات يُبدأ فيها دائمًا بالتحذير من الشرك قبل غيره لأنه أعظم وأكبر الجرائم، مثل قوله -ﷺ- اجتنبوا السلع الموبقات بدءًا بالشرك بالله.
شرح حديث بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا
قال “لا تُشركوا بالله شيئًا، ولا تسرِقوا، ولا تزْنوا، ولا تقتُلوا أولادَكم “
يمكن أن تُقسَّم هذه المنهيات المذكورة في هذا الحديث القسم الأول:
في حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا وأن يخلصوا في العبادة
ثم القسم الثاني:
يتعلق بحقوق العباد فيما بينهم فيما يتعلق بالأنفس وفيما يتعلق بالدماء وفيما يتعلق بالأعراض، كما قال في خطبة الوداع -ﷺ- أن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام….
أموالكم أي لا تسرقوا…
أعراضكم أي لا تزنوا ….
دمائكم أي لا تقتلوا…
فهذه جمعت أمهات المعاصي التي ترتكب أو تتعلق بحقوق العباد، في خطبة الوداع ثبت عنه -ﷺ- أنه قال إنما هن أربعة؛ لا تشركوا بالله شيئًا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسرقوا ولا تزنوا…”
أما الشرك بالله فهو أكبرها وأعظمها على الإطلاق وهو الذنب الذي لا يُغفر لمن مات عليه فمن مات وهو مشرك ليس له يوم القيامة غير النار كما قال الله سبحانه وتعالى:” وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍۢ.”
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الدواوين ثلاثة فديوان لا يغفر الله منه شيئاً، وديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً”
ديوان لا يغفر الله منه شيئا وهو الشرك به، وسيأتي تمام هذا الحديث أن ما دون الشرك تحت المشيئة، من أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه.
وديوان … هو ظلم العباد بعضهم لبعض فمن اعتدى على غيره في ماله، وفي عرضه، في شيء من ذلك، فالحقوق تؤدى والقصاص يكون يوم القيامة. إن لم يبرأ منه في الدنيا قال -ﷺ- يحشر الناس حفاة عراة بهمًا أي ليس معهم من الدنيا شيء.
ولا تقتلوا أولادكم..
خصَّ الأولاد بالذكر لأن قتل الأولاد من إملاق وأيضًا قتل البنات كان منتشرًا في الجاهلية الذي هو وأد البنات، ووأد البنات وكان أمرًا في آخر القباحة والخسة حتى إن البعض من شدة ما كان من كراهية للأنثى، يحفر حفرة في بيته وقت الولادة ويجلس عند زوجته عند الولاده إن كانت بنتًا يضعها في الحفرة ويهيم عليها التراب حتى قبل أن يسمع لها صوت.
أو بعضهم صبر أو تصبر قليلًا حتى بلغت الخامسة أو السادسة ثم يقول لأمها -وكل هذا قيد في كتب التاريخ- يقول لأمها زينيها طيبيها جمليها على اعتبار أنه سيأخذها إلى شيء جيد أو جميل أو نحو ذلك فيأخذها إلى حفرة قد أعدها لها وإذا وصل بها إلى الحفرة دفعها من خلفها وهال عليها التراب وهي حية.
“بهتانا تفترونه” والبهتان يشمل أمورًا كثيرة كلها يطلق عليها بهتان، الكذب وإيذاء الناس والتعدي على الآخرين والغيبة والنميمة وأمور السحر وغير ذلك ذكره أهل العلم مما يشكله قول النبي -ﷺ- “ولا تأتوا ببهتان بين ايديكم وارجلكم”
ولا اتصور في معروف بيد عدم العصيان في المعروف لأن الطاعة بالمعروف مع انه -ﷺ- كل قوله معروف وهذا مما يبين مقام الطاعة وأن الطاعة لله سبحانه وتعالى وأن طاعة النبي -ﷺ- من طاعة الله جل وعلا
أما المعصية في غير معروف مطلوبة يعني لو أن إنسانًا لآخر عليه حق وتلزمه طاعته من طاعة الابن لوالده فأمره بمعصية الله فلا طاعة له في معصية الخالق، فمن وفّى منكم فأجره على الله :
أي كمل هذه الأمور وقام بها والتزم بها فأجره على الله وهذه الكلمة تتضمن عظم الثواب الذي سيفوز به من قيل في حقه أجرك على الله، لأن العطية على قدر المعطي والله سبحانه وتعالى واسع الفضل والعطاء .
بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا
ومن أصاب من ذلك شيئًا يعني سرقة أو زنا أو قتل أو نحو ذلك فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه، هذا يفيد أن الحدود جوابر (1) وهذا الصريح في الحديث كما أن تزجر الآخرين عن هذه المعصية وتردعهم لهي في الوقت نفسه جوابه، وليس معني ذلك من دون التوبة لأنه يجب أن يكون تاب والتوبة هي الأساس التي تكون بها مغفرة الذنوب .
الشرك ليس داخلًا هنا قال الله تعالى:”إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِۦ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلًۢا بَعِيدًا”
والحديث إنما ساقه الإمام البخاري -رحمه الله- لهذه الترجمة لبيان مكانة الأنصار ومنزلتهم العظيمة، مما ينبه عليه هنا فيما يتعلق بالبيعة أن ما يوجد عند أصحاب الطرق من مبايعة من الشيخ لمن تحته من المريدين والأتباع عمل لا أصل له من شرع الله، وهذا يكثر عند الطرقية من دخل في سلك الطريق أو ما يبدأ يضع يده في يد الشيخ ويقول تبايعني ويلقنه كلام وجمل يردده وراءه على أذكار معينة وعبادات معينة ونص الذكر أنه بدع لم ينزلها الله سبحانه وتعالى من سلطان.
(مستفاد من تعليقات الشيخ عبد الرزاق البدر وفقه الله بتصرف)
__________________
(1) قد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين وهما:
هل الحدود زواجر بمعنى: أراد الله عز وجل من شرعها لعباده أن يجعلها زاجرة لهم ومانعة لهم من الوقوع في هذه المحرمات العظيمة، والكبائر الموبقة والمهلكة.
ومنهم من قال الحدود جوابر بمعنى: أي: أن الله سبحانه وتعالى شرع الحد كفارة للذنب
كما ننصح بقراءة التالي: