الحديث النبوي
عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَتْ أُمِّي: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خَادِمُكَ أَنَسٌ، ادْعُ اللَّهَ لَهُ، قَالَ: “اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ، وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فيما أعطيته”.
ببضع كلمات نبوية هكذا حوّل النبي ﷺ حياة أنس، حبيب النبي ﷺ ورفيق ظله، فكيف بات أنس ليلته بعد هذا الدعاء؟!
البطاقة التعريفية || الراوي
أنس بن مالك بن النضر، من أعظم صحابة النبي ﷺ وخادمه، وكان يفتخر بذلك، أمه أم سليم بنت ملحان، كنّاه النبي ﷺ بأبي حمزة، وخدم النبي ﷺ عشرة سنة، ولما مات النبي ﷺ كان عمره عشرون عامًا، روى عن النبي ﷺ علمًا كثيرًا، وكان بمثابة مرجع كبير للصحابة والتابعين، وهو في المرتبة الثالثة بعد أبي هريرة وعبد الله بن عمر في رواة الأحاديث، لم يتخلف عن أي غزوة مع النبي ﷺ، حتى بدر شهدها صغيرًا، ظفر بدعاء النبي ﷺ له بالبركة في ماله وولده وعمره، فكان من أكثر الصحابة أموالًا وأولادًا وأطولهم عمرًا، وكان آخر من مات من الصحابة عن 103 سنة.
شرح حديث دعاء النبي ﷺ لأنس بن مالك
زار النبي ﷺ أنس بن مالك في بيته، ولم يكن هناك إلا أم سليم وأم حَرام خالة أنس، فقال لهم النبي ﷺ: “قوموا فلأصلي بكم” وكان في غير الصلاة المكتوبة، وكان من أعظم مُنى الصحابة أن يصلي بهم النبي ﷺ في بيوتهم ليحظوا ببركته ﷺ، فصلى بهم النبي ﷺ ثم دعا لأهل البيت بخيري الدنيا والآخرة، فقالت أم سليم: “يا رسول الله، خويدمك، ادعُ الله له” تقصد أنس، وقد طلبت من النبي ﷺ الدعاء له مكافأة على إحسان أنس وخدمته للنبي ﷺ، فدعا له النبي ﷺ وقال: “اللَّهمَّ أكثِرْ مالَه وولدَه، وباركْ له فيهِ”، وهكذا أشرقت حياة أنس بما وجده ببركة دعاء حبيبه ﷺ، فقد كان لأنس بستان يحمل في كل عام الفاكهة مرتين، وكان به نبات الريحان تأتي منه ريح المسك، وكان من أكثر الأنصار مالًا وأولادًا، حتى إنه دُفن لذريته في عهد الحجاج ما يزيد عن مائة وعشرون.
وقليلٌ ما ذُكر من أسماء ذرية أنس في الكتب، ولعل ذلك يكون بسبب الطاعون الجارف الذي وقع في البصرة عام 69 هجرية، فقد حصد ما يقرب من مائتي ألف نفس في ثلاثة أيام، ومات لأنس أكثر من سبعين ابن، ومما دُوِّن في الكتب من أسماء أبنائه: أبو بكر، وأبو عمير، وأمينة، وعبد الله، وعمر، وموسى، والنضر، وعبيد الله، وزيد، وحمزة.
اقرأ أيضا:
مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم
أحكام فقهية:
من جمال هذا الحديث أنه يرشدنا إلى حكم فقهي مهم قد يجهله البعض، فقد سُئل ثابت البناني -وهو الراوي عن أنس- عن المكان الذي وقف فيه أنس وهو يصلي مع النبي ﷺ، فأجاب أن النبي ﷺ جعله عن يمينه، لأن المأموم الواحد يقف عن يمين الإمام
أما النساء فيقفن في صف بالخلف.
وقفات من حياة أنس
كان أنس التلميذ الشاب والخادم المخلص للنبي ﷺ، ولقرابته من رسول الله ﷺ وصلته به فقد روى عنه وأخذ عنه العلم الجم أكثر من غيره من الصحابة، وقد سطّر التاريخ مواقف ومناقب لأنس تحمل في طياتها الفخر وشرف الصحبة..
- في بداية الحياة إذ كان عمره ثمان سنوات، أقبلت أمه على النبي ﷺ بعد ما قدم المدينة، ومعها ابنها أنس، فقالت: “يا رسول الله، لم يبقَ رجل ولا امرأة مِن الأنصار إلا وقد أتحفك بتحفة، وإنِّي لا أقدر على ما أُتحفك به إلا ابني هذا، فخُذه، فليَخدُمك ما بدا لك”، فنعمت الهمة همة أم أنس، وهكذا بدأ عهدٌ جديد في حياة أنس، فقد قال رضي لله عنه: “فخدمتُه عشرَ سنين، فما ضرَبني، ولا سبَّني، ولا عبس في وجهي”.
- كانت صلاته أشبه بصلاة النبي ﷺ، ففصلوها وبينوها رجاء الاقتداء والاهتداء، فعن أبي هريرة قال: “ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله من فلان، فصلينا وراء ذلك الإنسان وكان يطيل الأوليين من الظهر، ويخفف في الأخريين، ويخفف في العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في العشاء بالشمس وضحاها وأشباهها، ويقرأ في الصبح، بسورتين طويلتين”.
- يقول أبو هريرة في شهادته لأنس وتزكيةً له: “ما رأيت أحدًا أشبه برسول الله من ابن أم سليم، يعني أنسًا”.
- كان قلب أنس مملوء بالتقوى والورع، لما كان يحرِم لا يقدر أحد أن يكلمه، وذلك من شدة حرصه على إبقائه على إحرامه.
- لما تعرّض الحجاج لأنس بن مالك بالسوء والأذى، كتب أنس لعبد الملك بن مروان -وكان موالي للحجاج-: ” إني خدَمت رسول الله ﷺ عشر سنين، والله لو أن النصارى أدرَكوا رجلاً خدَم نبيَّهم لأكرَموه”، وكان الحجاج قد اتهم أنس بأنه يثير الفتن جوّال فيها، يوالي عليّ تارة، وابن الزبير تارة أخرى، ولما رأى عبد الملك رسالة أنس كتب مسرعًا إلى الحجاج رسالة وأمره أن يعتذر إلى أنس، وبالفعل لما قرأ الحجاج رسالة عبد الملك نفّذ ما أمره به وبادر بالاعتذار إلى أنس.
- من أقوال أنس رضي الله عنه: “يقولون لا يجتمع حب علي وعثمان في قلب، وقد جمع الله حبهما في قلوبنا”.
- وعن ثابت البناني قال: قال لي أنس بن مالك: “هذه شعرة من شعر رسول الله ﷺ فضعها تحت لساني، قال: فوضعتها تحت لسانه، فدفن وهي تحت لسانه”.
سكن أنس البصرة في خلافة عمر، وقد انتقل إليها ليعلّم الناس ما حفظه من الحديث النبوي إلى أن مات بها سنة 90 وقيل 91 عن 103 عامًا.
اللغة القلبية || الدعاء
من الأمور التي تميز المسلم عن غيره أنه يحب لإخوانه ما يحب لنفسه، ومن ذلك الدعاء، تلك اللغة التي تتواصل بها قلوب المحبين، صورة رائعة يرسمها لنا النبي ﷺ في هذا الحديث يشجع بها على دعاء المسلمين بعضهم لبعض، ولا شك في أن هذا الدعاء يتضمن وعدًا بالإجابة لن يصل للمدعو فقط بل سيحوز منه الداعي أيضًا، لأن الملك الذي يقول “آمين” سيقول “ولك بمثلٍ”، هذه هي السنة النبوية، وهذا هو رُقي الإسلام.
وانظر: شرح حديث لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق
فوائد وفرائد من حديث دعاء النبي ﷺ لأنس بن مالك
- دعاء النبي ﷺ لأصحابه، وإظهار المودة والمحبة لهم.
- رفق النبي ﷺ بأم سليم وإجابته لسؤالها في الدعاء لابنها تحقيقًا لطلبها.
- من آداب الدعاء: الدعاء بالبركة في الأمور المتعلقة بالدنيا، لحفظها من الخطر، وكي لا تكون فيها فتنة ولا ضرر.
- فضل دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب، إذ أنه سبب في إجابة الدعاء، ولما فيه من الترابط والتآخي بين المسلمين.
- جواز الدعاء بالأمور الدنيوية ككثرة المال والأولاد، وأنه ليس بمكروه.
- دعاء الله بخيري الدنيا والآخرة من العبادات العظيمة.
- تجلي صفة الإيثار خاصةً في إيثار الابن على النفس.
- هذا الحديث دليل على نبوة النبي ﷺ لِما أجيبت دعوته ﷺ لأنس من كثرة ماله وأولاده، وفيه منقبة لأنس بن مالك.
- بيان موضع وقوف المأموم إذا كان وحيدا مع الإمام وهو بجانبه الأيمن ولا يتراجع قليلا إلى الخلف كما يفعله الناس