الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين، أما بعد فيقول الإمام زين الدين أبو العباس أحمد بن أحمد الزبيدي ” رحمه الله تعالى ” في كتابه التجريدي الصريح لأحاديث الجامع الصحيح عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت أَوَّلُ ما بُدِئَ به رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ في النَّوْمِ؛ فَكانَ لا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، فَكانَ يَأْتي حِرَاءً فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ “وهو التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ” ويَتَزَوَّدُ لذلكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلى خَدِيجَةَ فَتُزَوِّدُهُ لِمِثْلِهَا، حتَّى فَجِئَهُ الحَقُّ وهو في غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ المَلَكُ فِيهِ، فَقالَ: اقْرَأْ، فَقالَ له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ما أنَا بقَارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقالَ: اقْرَأْ، فَقُلتُ: ما أنَا بقَارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقالَ: اقْرَأْ، فَقُلتُ: ما أنَا بقَارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خلق الإنسان من علق، إقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان مالم يعلم }. فَرَجَعَ بهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ وفؤاده، حتَّى دَخَلَ علَى خَدِيجَةَ، فَقالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَزَمَّلُوهُ حتَّى ذَهَبَ عنْه الرَّوْعُ، فَقالَ: يا خَدِيجَةُ، ما لي؟ وأَخْبَرَهَا الخَبَرَ، وقالَ: قدْ خَشِيتُ علَى نَفْسِي، فَقالَتْ خديجة رضي الله تعالى عنها له: كَلَّا، أبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا؛ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ، ثُمَّ انْطَلَقَتْ به خَدِيجَةُ حتَّى أتَتْ به ورَقَةَ بنَ نَوْفَلِ بنِ أسَدِ بنِ عبدِ العُزَّى بنِ قُصَيٍّ، وهو ابنُ عَمِّ خَدِيجَةَ؛ أخُو أبِيهَا، وكانَ امْرَأً تَنَصَّرَ في الجَاهِلِيَّةِ، وكانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العَرَبِيَّ، فَيَكْتُبُ بالعَرَبِيَّةِ مِنَ الإنْجِيلِ ما شَاءَ اللَّهُ أنْ يَكْتُبَ، وكانَ شَيْخًا كَبِيرًا قدْ عَمِيَ، فَقالَتْ له خَدِيجَةُ: أيِ ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أخِيكَ، فَقالَ ورَقَةُ: ابْنَ أخِي، مَاذَا تَرَى؟ فأخْبَرَهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما رَأَى، فَقالَ ورَقَةُ: هذا النَّامُوسُ الذي أُنْزِلَ علَى مُوسَى، يا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، أكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ فَقالَ ورَقَةُ: نَعَمْ؛ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بمِثْلِ ما جِئْتَ به إلَّا عُودِيَ، وإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا،ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ ورَقَةُ أنْ تُوُفِّيَ. وفَتَرَ الوَحْيُ
شرح الحديث الشريف
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد فهذا الحديث الثالث من الأحاديث التي ساقها الإمام البخاري رحمه الله تعالى من باب ” كيف بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم “، وهذا الحديث العظيم الذي ترويه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فيها ذكرٌ لصفة بدء الوحي وكيف كان التدرج في ذلك وكيف نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً كان ذلك أول نزول لجبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم، فكان أمراً عظيماً ومهيباً، فذكرت رضي الله عنها وأرضاها ما كان في ذلك بدء الوحي ” وحي الرسول صلى الله عليه وسلم “، تقول عائشة رضي الله عنها [ أول ما بُدء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ] وجاء في بعض الروايات ” الصادقة ” والرؤيا الصالحة من الصلاح ضد ” السيء أو الطالح “، أم الرؤيا الصادقة ضدها ” الكاذبة “.
ولذلك يعتبر أول ما بُدء به رسول الله هي الرؤيا الصالحة في النوم، والوحي منه ” وهذا سبق الإشارة إليه ” في قول الله تعالى (وما كان لبشرٍ أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجابٍ أو يرسل رسولا)
[ أنواع الوحي ]
ومن أنواع الوحي المُنزل على النبي صلى الله عليه وسلم “ الإلهام “، وأدخل فيها العلم ” الرؤيا المنامية ” فكان أول ما بُدئ به صلوات الله عليه وسلم من الوحي هي الرؤيا المنامية، وكان بدء الرؤيا المنامية التي تعتبر جزء من الوحي المُنزل عليه عند تمام صلى الله عليه وسلم الأربعين ” سن الأربعين “.
تحديداً في شهر ربيع الأول الذي تم به بلوغ النبي الأربعين من عمره، أما نزول الوحي بنزول جبريل بالقرآن فكان في شهر رمضان، من قوله تعالى [ شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن ]، كما أن المدة بين الرؤيا المنامية ووقت نزول الوحي على نبينا صلى الله عليه وسلم بكلام الله سبحانه وتعالى هو ستة أشهر ويرجع ذلك إلى أحاديث بعض العلماء،” فَكانَ لا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ” أي ظهوراً وبياناً ، أما فلق الصبح هو نوره وضيائه ووضوحه.
حيث كان رسول الله لا يرى رؤيا إلا وظهرت مثل وضوح النهار وفلق الصبح، أي أن ما رأه يكون مجيئه كذلك في وضوحه وظهوره وبيانه
” ثم حبب إليه الخلاء “ وهذا تأمل التدرج الذي كان في تنزل الوحي على النبي، ثم بعد ذلك حبب إليه الخلاء، والخلاء ” هو التعبد منفرداً وحيداً بعيداً عن الناس بمفرده ” ….. أن الله هو من جعل رسولنا الكريم يحب الخلاء ويحب التعبد في خلوة، وهذه الخلوة من شأنها أن تعيين على صفاء القلب، وقوة التفكر والتأمل والتدبر.
” فكان يخلو بغار حراء “ وحراء “هو جبل في مكة المكرمة جهة اليسار المتجه إليها”، أما الغار ” هو ثقب أو مدخل داخل الجبل ” فيدخل صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الغار ويخلو فيه [ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ ] وهو التعبد في الليالي ذوات العدد، ولكن لم يُذكر طريقة التعبد التي كان يتعبدها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، ومثل ذلك لا يُجادل فيه إلا بمثبت أو دليل، فكل ما ذُكر أنه فقط كان يتعبد أو يتحنث.
فإذا كان يتعبد صلى الله عليه وسلم في غار حِراء بما فتح الله عليه به، وهو تعبداً لله سبحانه وتعالى، أما بالنسبة إلى ” الليالي ذوات العدد ” تعني الليالي الكثيرة التي يتعبد فيها رسولنا الحبيب لله سبحانه وتعالى، كما يُشار أن قصد الغار غار حراء وما يفعله الرسول، فذلك لا يُشرع ولا يوجد دليل حتى على مشروعيته كما ذكرنا سلفاً، فقد حبذ الله سبحانه وتعالى حب الخلاء في قلب النبي لذلك الغار ألا وهو غار حراء.
شرح حديث أول ما بدئ به
ثم بعد نزول الوحي كان الأمر على النبي بقيام الليل، وقيام الليل يعد ” خلوة ” بين العبد وبين ربه في خير وقت وأشرف وقت، فمن أراد هذا التعبد يجعل لنفسه حظاً من قيام الليل، في ثلث الليل الآخر حين ينزل الرب سبحانه وتعالى في سماء الدنيا ويقول ” من يسألني فأعطيه، من يدعوني فأستجيب له، من يستغفرني فأغفر له “، والتهجد وقيام الليل خلوة وصفاء وإقبال عظيم على الله سبحانه وتعالى وفيه من الخيرات والبركات ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
” قبل أن ينزع إلى أهله ” أي يرجع إلى منزله، وهذا دليل على حب البيت حيث يبقى ليالي ثم يعود إلى أهله وبيته، ” يتزود ” أي رجع للخلاء مرة أخرى، ” ثُمَّ يَرْجِعُ إلى خَدِيجَةَ فَتُزَوِّدُهُ لِمِثْلِهَا ” وهذا يعني أن رسول الله كان يرجع إلى خديجة رضي الله عنها من أجل أن يأخذ الزاد ” أي الطعام ” من أجل تلك الليالي التي يمضيها الرسول في الغار.
” حتى جاءه الحق في غار حراء ” أي جاءه وحي الله وتنزيله وهو في الغار، وهذا يعني أول نزول للوحي على الرسول كان متعبداً في غار حراء، فجاءه الملك ” أي جبريل ” عليه السلام بالقرآن، ” فَقالَ: اقْرَأْ، فَقالَ له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ما أنَا بقَارِئ ” قال له الوحي بصيغة الأمر ” اقرأ ” فرد عليه النبي بصيغة النفي ” ما أنا بقارئ “، وهنا ينفي النبي أنه يعرف القراءة أي أنه لا يجيد القراءة.
” فأخَذَنِي فَغَطَّنِي حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ “، غطني أي ” عصرني و ضمني “ الجهد معناها ” المشقة ” وهي بفتح حرف الجيم، أي ضغطه حتى أصابه المشقة، ” ثم أرسلني ” ومعناها ” تركني “، ثم أعاد عليه الأمر بالقراءة للمرة الثانية، فرد النبي عليه بالنفي مرة أخرى ” ما أنا بقارئ “، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، أي قام بضمه إليه مرة أخرى حتى أصابه المشقة والشدة بسبب ذلك.
ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقالَ: اقْرَأْ، فَقُلتُ: ما أنَا بقَارِئ وتركه مرة أخرى ثم عرض عليه القراءة للمرة الثالثة بصيغة الأمر ” إقرأ ” ثم نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدم إجادته للقراءة، ، ” فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أرْسَلَنِي ” وهذا يعني أن جبريل قام بضمه حتى شعر نبينا محمد بالمشقة للمرة الثالثة ثم تركه، فَقالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خلق الإنسان من علق، إقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان مالم يعلم }، فنزلت هذه الآيات العظيمات، وهي أول ما نزلت على نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم وهذا يعني أن دين الله مبني على تعلم الدين ومعرفة الشرع ومعرفة العبادة التي خُلق الكون من أجلها، وفيه أنه لا يتحقق شئ منها إلا بعون الله ومدده وتوفيقه.
ولهذا لا بد من البسملة في إفتتاح الأمور، وأن تقول بسم الله عند إفتتاح أي أمر أو موضوع ما، وهي كلمة استعانة معناها انك تطلب المدد وتستعين بالله، فالدين يجمع الأمرين ” إقرأ بإسم ربك “ أن تأخذ بالأسباب وتستعين بالله، وقد جُمع بينهم في نصوص كثيرة مثل قوله تعالى ” فاعبده وتوكل عليه “ وتكثر الآيات والأحاديث في هذا كثيراً، خلق الإنسان من علق، إقرأ وربك الأكرم وهنا تعني الإشارة لرسول الله بأنه نُبئ أي أصبح نبياً ، وأُرسل بالمدثر في قوله تعالى يا أيها المدثر قم فأنذر.
ومن هنا نستنتج أن نبينا عليه الصلاة والسلام نُبئ بإقرأ “أي بنزول ” إقرأ ” صار نبياً ” وأُرسل بالمدثر أي حين نزل عليه قول الله تعالى [يا أيها المدثر قم فأنذر]، “ فَرَجَعَ بهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ وفؤاده ” وكلمة ” بها ” تعود على الأيات التي تلاها سيدنا جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما يرجف فؤاده أي من هول ما رأى وعظم ما رأى، حتَّى دَخَلَ علَى خَدِيجَةَ، فَقالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَزَمَّلُوهُ أي طلب من أهله الغطاء.
وهذا يُستفاد منه أن في حالة الخوف والفزع دائماً ما يلجئ الإنسان إلى الفراش وإلى الغطاء، حتَّى ذَهَبَ عنْه الرَّوْعُ فهذا كما أسلفت يستفاد منها أن الإنسان يلتحق بالفراش حتى يسكن ويهدأ، ، فَقالَ: يا خَدِيجَةُ، ما لي؟ وأَخْبَرَهَا الخَبَرَ وهنا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم سيدتنا خديجة الخبر، وهنا نستفيد أن في حالة الروع والخوف يجب أن يترك الشخص ولا يجب أن يُطرح عليه أي أسئلة، وهذا مافعلته سيدتنا خديجة رضي الله عنها فكانت نعم الزوجة.
شرح حديث أول ما بدئ به
وقالَ: قدْ خَشِيتُ علَى نَفْسِي قيل أقوال كثيرة عن ما خشاه الرسول على نفسه مثل الموت أو المرض أو غير ذلك، وخشيت معناها أنه خاف على نفسه، فَقالَتْ خديجة رضي الله تعالى عنها له: كَلَّا، أبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا هذا القسم الذي قالته خديجة لرسول الله مبني على ما تعرفه عنه من كرم أخلاقه ومعاونته للناس فأقسمت بالله على ذلك.
إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ وتعتبر تلك الأسباب التي جعلت السيدة خديجة تقسم لرسول الله بعدم وجود سوء له، فهي بعض الصفات البسيطة فقط في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتَحْمِلُ الكَلَّ أي الإنسان العاجز الذي لا يستطيع أن يقوم بأموره ومصالحه بنفسه فكان يساعده على ذلك رسول الله، وتَقْرِي الضَّيْفَ أي تقوم على إكرامه وضيافته، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ أي المشاكل التي قد تواجه الإنسان، يقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعانته على تلك المشاكل.
وهنا قد هدأت السيدة خديجة بعضاً من خوف الرسول بذكر بعض خصاله وسماته الكريمة التي أكرمه الله به، وهذا موقف عظيم جداً من زوجة النبي، فلم تكتفي بذلك ثُمَّ انْطَلَقَتْ به خَدِيجَةُ حتَّى أتَتْ به ورَقَةَ بنَ نَوْفَلِ بنِ أسَدِ بنِ عبدِ العُزَّى بنِ قُصَيٍّ، وهو ابنُ عَمِّ خَدِيجَةَ؛ أخُو أبِيهَا حيث ذهبت به إلى إبن عمها ورقة بن نوفل، وكانَ امْرَأً تَنَصَّرَ في الجَاهِلِيَّةِ أي كان ورقة رجلاً قد تنصرإعتنق النصرانية، وتعلم اللغة العبرانية.
وكان يكتب بها وكان معدودً في علماء النصارى لأنه كتب وقرأ وتعلم فكان رجلا تنصر في الجاهلية، فلم يعجبه حال قومه في عبادة الأصنام والأوثام، لذلك دخل الدين الميسيحي، وكانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العَرَبِيَّ، فَيَكْتُبُ بالعَرَبِيَّةِ مِنَ الإنْجِيلِ ما شَاءَ اللَّهُ أنْ يَكْتُبَ، وهذا يدل على أنه رجل عرف العبرانية وقرأ الإنجيل ونقل من أشياء بنفسه، وكانَ شَيْخًا كَبِيرًا قدْ عَمِيَ وهذا وصف ورقة بن نوفل أنه شيخ كبير في السن وفقد بصره أي أعمى.
فَقالَتْ له خَدِيجَةُ: أيِ ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أخِيكَ وهنا يظهر لباقة وحسن الكلام من السيدة خديجة في بداية تلك الجملة، ، فَقالَ ورَقَةُ: ابْنَ أخِي، مَاذَا تَرَى؟ فأخْبَرَهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما رَأَى وهنا بدأ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن يروي ما رأى وما حدث وما سمع منه في حراء لورقة بن نوفل، فَقالَ ورَقَةُ: هذا النَّامُوسُ الذي أُنْزِلَ علَى مُوسَى فُسر الناموس بصاحب الصلة والمراد هنا ” جبريل ” وهو صاحب الوحي الذي كان ينزل به على النبيين، فهو كان يعلم بسبب ما كان يقرأه من الإنجيل والذي نزل على موسى ونزل على عيسى.
كما قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله، المقام أو السياق يحتمل المعنيين، وهو أن الناموس يعني ” جبريل ” أو ” الوحي الذي نزل به جبريل ” مثل الروح التي يطلق ويراد به جبريل في قوله تعالى [ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا]، والروح هنا تعني جبريل، ومثله الناموس يراد به ” الوحي أو جبريل “، يا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا الجذع هو الصغير من البهائم، وهنا يتمنى ورقة أن يكون شاباً صغيراً لكي يجاهد مع محمد صلى الله عليه وسلم.
أكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ وهنا يرجو ورقة أن يكون حياً لأنه كان شيخاً كبيراً في السن ويريد الجهاد مع الرسول، وكان يعلم بوجود خلافات بين رسول الله وبين قومه، ولكن خلاف مع من !؟، مع رجل عرفه كل قومه بالخلق والأدب والتعامل وكان يعرف بالصادق الأمين ويقف مواقف عظيمة معهم، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ وهنا يستغرب ويتعجب رسول الله مما قد يحدث، لأنه دائماً على خلق عظيمة لقومه فلم يتوقع أن يكون هناك عداوة أبداً وذلك لأنه كان محبوب جداً بين قومه.
فَقالَ ورَقَةُ: نَعَمْ؛ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بمِثْلِ ما جِئْتَ به إلَّا عُودِيَ، وهنا ورقة أكد له ذلك بسبب لم يأت أحد بتلك الرسالة إلا وعودي من قبل قومه، وذلك لأن الدعوة تحرم شهواتهم وتصرفاتهم وغير ذلك، وهم لم ولن يقبلوا بتلك العقائد، لأن أفضل أعمالهم وأفضل شهواتهم تخالف تلك الدعوة تماماً، فهذه العداوة من أقوام الأنبياء ستستمر لأخر نبي بسبب تخالف الفكر والمعتقدات بسب تحريم كل ما يعبدونه وما يقدسونه.
وإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا سبحان الله رجل كبير وشيخاً كبيرا في عمر ورقة يريد أن يحمي ويؤازر الرسول في دعوته ضد أعداء الله، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ ورَقَةُ أنْ تُوُفِّيَ. وفَتَرَ الوَحْيُ وبعد ذلك مات ورقة وانقطع الوحي، وقد قيل أن الفترة التي إنقطع الوحي بها حوالى سنتين ونصف أو أكثر، وقال بن عباس أنه إنقطع أياماً وهذا والله أعلم.
أنَّ جابِرَ بنَ عبدِ اللَّهِ الأنْصارِيَّ، قالَ: وهو يُحَدِّثُ عن فَتْرَةِ الوَحْيِ فقالَ في حَديثِهِ: بَيْنا أنا أمْشِي إذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّماءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي، فإذا المَلَكُ الذي جاءَنِي بحِراءٍ جالِسٌ علَى كُرْسِيٍّ بيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، فَرُعِبْتُ منه، فَرَجَعْتُ فَقُلتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فأنْزَلَ اللَّهُ تَعالَى: {يا أيُّها المُدَّثِّرُ. قُمْ فأنْذِرْ} [المدثر: 2] إلى قَوْلِهِ {والرُّجْزَ فاهْجُرْ} [المدثر: 5]. فَحَمِيَ الوَحْيُ وتَتابَعَ .
شرح الشيخ عبد الرزاق البدر وفقه الله / مفرغ